الثلاثاء، 31 مارس 2009

الرحلة الزمردية إلى الديار الهندية - الجزء الثالث

هبطت بنا الطائرة في مطار حيدرآباد الدولي، وبعد أن سلمنا السير المتحرك حقائبنا (مجانا)، بحثنا في تلك الأمواج البشرية عمن ينتظرنا، أو عمن على الأقل يشبهنا، ضحكت وأنا أبحث لأن الجميع بدوا لي متشابهين، رددت على مسمعي أن هذا مستحيل، وفجأة لمحتها، جدتي التي لم أرها منذ عشر سنوات، عرفتها مباشرة، تقدمت نحوها وقبلت رأسها وهي مستغربة من مظهري الذي فقد طفولته، وأنا متوتر من رؤيتها وعدم مقدرتي على التواصل معها، فكلنا يتحدث لغة مختلفة،وكان هناك خالي أيضا لمحته لاحقا، وعانقته دون توتر، فهو جاء إلى عمان سابقا، ويجيد العربية قليلا، خرجنا من المطار إلى عالم آخر مختلف، لا أذكر أني رأيت في أي وقت من حياتي، صحوا أو نوما، هذا العدد الهائل من الأعين موجهة نحوي في لحظة واحدة تفحصني بأشعتها ثم تنتقل عني عندما تراني لا أحقق غايتها، عدنا إلى منزل جدي في السيارة الصفراء الصغيرة التي استعارها خالي من جاره، حيدرآباد مدينة نظيفة نسبيا مقارنة بغيرها من مدن الهند، شوارعها مزدحمة ليس بالسيارات فقط، بل بمختلف أنواع الدراجات والحمير والعربات التي تجرها الثيران وأحيانا كثيرة بنو البشر، وهناك أيضا (الآتو) سيارة صفراء صغيرة جميلة بلا نوافذ وبثلاث إطارات، السائق متعدد المهام وحده يجلس في الأمام يسوق ويخرج يديه خارج السيارة كلما أراد الانعطاف، وخلفه مقعد يتسع لثلاثة كحد أقصى يراقبون العداد أمامهم يجري بالكيلومترات التي قطعوها، تجربة جميلة غير أنك لا بد من أن تجري تنظيفا شاملا بالصابون والشامبو لأنابيب أنفك الملوثة بدخان السيارات التي تستعمل غالبا وقودا رخيصا أو غير منقى من الرصاص وفي حالات كثيرة مخلوطا بمواد الله أعلم ماهي. المباني جميلة يفوح منها عبق التراث هناك المباني القديمة بعضها يعود إلى العهد الإسلامي قبل قرن من الزمن وأكثر، هناك المكتبات الإسلامية القديمة، والبيمارستانات، والجوامع الرائعة التصميم، والبيوت المبنية على الطراز العثماني حيث كانت هناك علاقات بين العثمانيين والهند خاصة في عهد محمد علي باشا حتى أن بعض الشوارع قد سميت باسمه.
وصلت إلى المدينة التي يسكن فيها جدي وأبنائه الاثنا عشر وأحفادهم الذي لم تسنح لي الفرصة لعدهم، اسم المدينة عمبر بيت، واسم المنطقة الداخلية آزاد نجر، أخبروني معناها ونسيته حاليا، آزاد نجر كومة من البيوت المتراصة بشكل عجيب ولا نهائي، تمر بينها طرق تضيق حتى أن المرء يمشي على جنب، وطرق أخرى لا تتسع إلا بمقدار ما يسمح لسيارة بالمرور، لقد استمتعت بالدوران في تلك المتاهة لاحقا، وكنت أمشي لمسافة طويلة وأبتعد عن بيت جدي، وأعود من طريق أخرى معتمدا على الحظ ونجوم النهار ومن الغرابة بمكان أنني دائما أصيب ولا أتوه، لم أجد لذلك تفسيرا، فأنا غالبا ما أتوه في شوارع دبي والشارقة المنظمة والمعنونة بمختلف أنواع اللوحات.
كان والد جدي "قاسم" الناجي الوحيد من بين أهالي قريته التي أصابها مرض فتك بجميع من يعرفه، ولكنه بعد سنين تزوج وأنجب ولدين، وكل ولد بعد ذلك أنجب ثلاثة عشر والدا، والآن لدى بعض هؤلاء الأولاد الذين انتشروا في الأرض حتى مسقط ودبي أحفادا، وأحفاد أحفاد، جدي "معين الدين" كان المسلم الوحيد الذي دفعه الفقر أن يعيش في بلدة كل أهلها كفار، وذاك يعني انعدام المسجد ودوره في الحفاظ على الرعية المسلمة، فكان في بداية حياته يكثر من شرب شراب طبيعي يخرج من أشجار مثل النخيل ولكنه يسكر ويذهب العقل، وذاك بسبب الجهل والصحبة السيئة، وبعد ذلك وبإصرار من زوجته "آمنة" المنحدرة من عائلة متمسكة بإسلامها، انتقل جدي وعائلته الصغيرة آنذاك- وكانت أمي أكبر أولاده- إلى بيئة مسلمة بالقرب من أصهاره، حيث ترك ذاك الشراب، وعكف بدلا منه على التدخين الذي أتعبه وأسقطه طريح الفراش مرات عديدة، حتى هذه المرة التي كانت سببا لزيارتنا للهند، لأنه اتصل بأمي وأخبرها أنه يريد رؤيتها وأن موعد رحيله عن دنيانا قد قرب.
حين دخلت البيت المستأجر من بابه الأمامي كان على اليمين حفرة صغيرة تملأ بالماء الذي يستخدم للشرب والطبخ، وعن يمين الحفرة الحمام الوحيد في المنزل، وعندما تخطو خطوتين للأمام، يصادفك عن اليمين مطبخ رمادي اللون تفوح منه روائح الفلفل والبهارات المختلفة ورائحة نخالة الأرز، ثم بعد خطوات بسيطة تجد نفسك في بهو متواضع مزود بكراسي قديمة وسريرا خشبيا مغطى بشبكة تحمي من البعوض الذي يترك أزرارا حمراء على جسمك تسبب لك الحكة الرهيبة عندما يقرصك، وبعد البهو تحتار هل تذهب لليسار لغرفة تناول الطعام في النهار، والنوم للنساء فقط في الليل، أم لليمين لغرفة جدي المريض، والتي ينام فيها الرجال، وهاتان الغرفتان هما الحدود النهائية للبيت، كان جدي مستلقيا على سرير خشبي، يعلوه رف وضع عليه أغطية النوم التي فقدت ألوانها، وكان رجلا مهيبا بلحيته البيضاء الوقورة في السبعين من عمره، عندما دخلت عليه رفع لي يديه المترهلتين، ووجدت نفسي أصافحه دونما غرابة أو استنكار، وتحدثنا كثيرا بغة الأعين في وقت قصير، فلا واحد منا يجيد لغة الآخر، ولم أجد شيئا لأقوله في ذلك الموقف بعد أن ألقيت التحية والسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق