الاثنين، 9 مارس 2009

الأعرج والمُعلم (قصة خيالية)




في إحدى القرى الريفية التي تكثر فيها الحيوانات الأليفة والطليقة كان هناك قط أسود عظيم الجثة، مُهاب المقام، ذو وجه بيضاوي بارز، يطغى عليه شنب كثيف الشعر، ويزرع الندب الأحمر الممتد من فوق عينه اليمنى إلى تحتها بشكل مائل من الخارج إلى الداخل في كل من يراه شعورا ممزوجا بالهيبة والخوف، ورغم أن برجله اليسرى عرج بيّن إلا أنك ترى – والدهشة تتملك قلبك وعقلك – جميع القطط كبيرها وصغيرها، ذكورها وإناثها تفقد صوابها، وترتجف شفاهها، وتصطك أرجلها إن رأته قادما من بعيد، فما إن يظهر على الأفق القط الأعرج – كما يسميه أهل القرية – وينتبه أي قط لوجوده حتى يجمد في مكانه، ويظل عاجزا عن الحراك، وكأنما أشعة سحرية تخرج من هذا الأعرج تحول كل من يراه إلى صخرة صامتة، وحتى أهل القرية تراهم حريصين أن تكون هناك مسافة أمان بينهم وبين الأعرج، ولم يجرؤ أحد منهم فيما مضى على الاقتراب منه، أو الدخول معه في تعامل ولا حتى مجرد تبادل للنظرات.
ولكن لم يعهد أبدا عن الأعرج أنه رضيع الحروب، ومشعل الفتن، بل إنه لم يدخل في عراك جدي في حياته إلا مرة واحدة، تلك التي كلفته عرجا في رجله، وندبا يشوه وجهه، ففي إحدى ليالي الشتاء الباردة المطيرة كان الأعرج قد حشر نفسه في جحر هربا من المطر ورغبة في بعض الحرارة الدافئة لشعره المبتل، ولم تمض عليه دقائق بسيطة حتى أتى أحد الكلاب الشرسة الذي كان يعاني من نفس ما عانى منه الأعرج، فلما رأى أحدا بالداخل، شرع ينبح نباحا عظيما، وغرس أنيابه في قدم الأعرج اليسرى مسببا له عاهته الأبدية، ومحاولا جره إلى خارج ذلك الجحر، ولما أفلت الكلب له، نهض الأعرج على ما تبقى له من أرجل، وكان لا يقل عن الكلب جثة، فأخذ يزمجر ويصدر أصواتا مرعبة، واشتبك مع الكلب في قتال عنيف بالأظافر والأنياب، وفي إحدى تلك المناوشات تسبب الكلب في جرحه على عينه اليمنى، فوقف الأعرج على قدميه الخلفيتين مقاوما كل آلامه وبصرخة عظيمة وجه قدماه الأماميتين كسهم صائب إلى داخل محجري الكلب، هارسا عيناه كما يهرس الخباز عجينة الطحين، فتراجع الكلب إلى الخلف ينبح نباحا متقطعا مليئا بالألم وسقط في حفرة خلفه مليئة بالأشواك، وكانت تلك نهايته، وفي الصباح تجمعت القطط وبقية الكائنات على مشهد لم تر له من قبل مثيلا، الأعرج ملقى على الأرض ويداه مليئتان بالدم، وكلب شوهت عيناه مرمي في حفرة من الأشواك لا يتحرك، وبينما كانت أعينهم موجهة إلى ذلك المشهد العجيب، نهض الأعرج بصعوبة بالغة، وأخذ يسحب نفسه، والجميع يبتعد عن طريقه خائفا مشدوها، وكانت تلك بداية أسطورته.
وفي يوم من أيام الربيع الجميلة أتى قط رمادي معتدل الجثة رشيق القوام خفيف الظل إلى القرية، وسرعان ما جذب انتباه قططها، ونال إعجابها، وأصبح مدار أحاديثها، وخفف عنهم ما كانوا يشعرون به من ضغط الأعرج، وأعطى لحياتهم معنى مختلفا غير التجهم والخوف والتسلط، لم يأبه الأعرج لقدوم هذا المتحذلق المهرج، ولم يعط له أية قيمة، وتابع حياته كما هي في السابق، إلا أنه في أحد الأيام، وبينما كانت صغار القطط تلعب في إحدى ساحات القرية، ظهر ثعبان عظيم من بين أشجار النخيل، وبحركة سريعة التقف قطة صغيرة وأخذ يغرس فيها أنيابه، فلمح القط الرمادي ما يحدث فهب مسرعا للنجدة، وكان خفيفا رشيقا، قفز في الهواء قفزة بهلوانية وحط على الثعبان بأقدامه، وعضه بأنيابه تحت رأسه عضة عظيمة لم يستطع الثعبان الإفلات منها، فلف جسده الطويل على خصر القط وبدأ يعصره عصرا بليغا، والقط يزيد في عضه ولا يفلت له، وأخذا يتقلبان على الأرض السبخة وأثارا غبارا عظيما، منع الآخرين من رؤية ما يحدث، وفي أثناء ذلك تجمعت القطط وبقية الكائنات حول ساحة المعركة، وحتى الأعرج رغم بروده لم يستطع منع نفسه من الحضور والمشاهدة، وبينما كانوا ينصتون ويشاهدون، هدأت الجلبة، وسكن المكان، فاشرأبت أعناقهم، متلهفين لمعرفة النتيجة، فإذا بالقط يظهر من بين الغبار، يترنح ويعوي من شدة الألم، وقد ترك الثعبان على وسطه علامة واضحة كحزام بقيت تشوهه طيلة حياته، إلا أن ذلك أكسبه هو الآخر هيبة واحتراما كبيرين، وبدأ الكل يرغب في مصاحبته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق