الثلاثاء، 31 مارس 2009

الرحلة الزمردية إلى الديار الهندية - الجزء الثالث

هبطت بنا الطائرة في مطار حيدرآباد الدولي، وبعد أن سلمنا السير المتحرك حقائبنا (مجانا)، بحثنا في تلك الأمواج البشرية عمن ينتظرنا، أو عمن على الأقل يشبهنا، ضحكت وأنا أبحث لأن الجميع بدوا لي متشابهين، رددت على مسمعي أن هذا مستحيل، وفجأة لمحتها، جدتي التي لم أرها منذ عشر سنوات، عرفتها مباشرة، تقدمت نحوها وقبلت رأسها وهي مستغربة من مظهري الذي فقد طفولته، وأنا متوتر من رؤيتها وعدم مقدرتي على التواصل معها، فكلنا يتحدث لغة مختلفة،وكان هناك خالي أيضا لمحته لاحقا، وعانقته دون توتر، فهو جاء إلى عمان سابقا، ويجيد العربية قليلا، خرجنا من المطار إلى عالم آخر مختلف، لا أذكر أني رأيت في أي وقت من حياتي، صحوا أو نوما، هذا العدد الهائل من الأعين موجهة نحوي في لحظة واحدة تفحصني بأشعتها ثم تنتقل عني عندما تراني لا أحقق غايتها، عدنا إلى منزل جدي في السيارة الصفراء الصغيرة التي استعارها خالي من جاره، حيدرآباد مدينة نظيفة نسبيا مقارنة بغيرها من مدن الهند، شوارعها مزدحمة ليس بالسيارات فقط، بل بمختلف أنواع الدراجات والحمير والعربات التي تجرها الثيران وأحيانا كثيرة بنو البشر، وهناك أيضا (الآتو) سيارة صفراء صغيرة جميلة بلا نوافذ وبثلاث إطارات، السائق متعدد المهام وحده يجلس في الأمام يسوق ويخرج يديه خارج السيارة كلما أراد الانعطاف، وخلفه مقعد يتسع لثلاثة كحد أقصى يراقبون العداد أمامهم يجري بالكيلومترات التي قطعوها، تجربة جميلة غير أنك لا بد من أن تجري تنظيفا شاملا بالصابون والشامبو لأنابيب أنفك الملوثة بدخان السيارات التي تستعمل غالبا وقودا رخيصا أو غير منقى من الرصاص وفي حالات كثيرة مخلوطا بمواد الله أعلم ماهي. المباني جميلة يفوح منها عبق التراث هناك المباني القديمة بعضها يعود إلى العهد الإسلامي قبل قرن من الزمن وأكثر، هناك المكتبات الإسلامية القديمة، والبيمارستانات، والجوامع الرائعة التصميم، والبيوت المبنية على الطراز العثماني حيث كانت هناك علاقات بين العثمانيين والهند خاصة في عهد محمد علي باشا حتى أن بعض الشوارع قد سميت باسمه.
وصلت إلى المدينة التي يسكن فيها جدي وأبنائه الاثنا عشر وأحفادهم الذي لم تسنح لي الفرصة لعدهم، اسم المدينة عمبر بيت، واسم المنطقة الداخلية آزاد نجر، أخبروني معناها ونسيته حاليا، آزاد نجر كومة من البيوت المتراصة بشكل عجيب ولا نهائي، تمر بينها طرق تضيق حتى أن المرء يمشي على جنب، وطرق أخرى لا تتسع إلا بمقدار ما يسمح لسيارة بالمرور، لقد استمتعت بالدوران في تلك المتاهة لاحقا، وكنت أمشي لمسافة طويلة وأبتعد عن بيت جدي، وأعود من طريق أخرى معتمدا على الحظ ونجوم النهار ومن الغرابة بمكان أنني دائما أصيب ولا أتوه، لم أجد لذلك تفسيرا، فأنا غالبا ما أتوه في شوارع دبي والشارقة المنظمة والمعنونة بمختلف أنواع اللوحات.
كان والد جدي "قاسم" الناجي الوحيد من بين أهالي قريته التي أصابها مرض فتك بجميع من يعرفه، ولكنه بعد سنين تزوج وأنجب ولدين، وكل ولد بعد ذلك أنجب ثلاثة عشر والدا، والآن لدى بعض هؤلاء الأولاد الذين انتشروا في الأرض حتى مسقط ودبي أحفادا، وأحفاد أحفاد، جدي "معين الدين" كان المسلم الوحيد الذي دفعه الفقر أن يعيش في بلدة كل أهلها كفار، وذاك يعني انعدام المسجد ودوره في الحفاظ على الرعية المسلمة، فكان في بداية حياته يكثر من شرب شراب طبيعي يخرج من أشجار مثل النخيل ولكنه يسكر ويذهب العقل، وذاك بسبب الجهل والصحبة السيئة، وبعد ذلك وبإصرار من زوجته "آمنة" المنحدرة من عائلة متمسكة بإسلامها، انتقل جدي وعائلته الصغيرة آنذاك- وكانت أمي أكبر أولاده- إلى بيئة مسلمة بالقرب من أصهاره، حيث ترك ذاك الشراب، وعكف بدلا منه على التدخين الذي أتعبه وأسقطه طريح الفراش مرات عديدة، حتى هذه المرة التي كانت سببا لزيارتنا للهند، لأنه اتصل بأمي وأخبرها أنه يريد رؤيتها وأن موعد رحيله عن دنيانا قد قرب.
حين دخلت البيت المستأجر من بابه الأمامي كان على اليمين حفرة صغيرة تملأ بالماء الذي يستخدم للشرب والطبخ، وعن يمين الحفرة الحمام الوحيد في المنزل، وعندما تخطو خطوتين للأمام، يصادفك عن اليمين مطبخ رمادي اللون تفوح منه روائح الفلفل والبهارات المختلفة ورائحة نخالة الأرز، ثم بعد خطوات بسيطة تجد نفسك في بهو متواضع مزود بكراسي قديمة وسريرا خشبيا مغطى بشبكة تحمي من البعوض الذي يترك أزرارا حمراء على جسمك تسبب لك الحكة الرهيبة عندما يقرصك، وبعد البهو تحتار هل تذهب لليسار لغرفة تناول الطعام في النهار، والنوم للنساء فقط في الليل، أم لليمين لغرفة جدي المريض، والتي ينام فيها الرجال، وهاتان الغرفتان هما الحدود النهائية للبيت، كان جدي مستلقيا على سرير خشبي، يعلوه رف وضع عليه أغطية النوم التي فقدت ألوانها، وكان رجلا مهيبا بلحيته البيضاء الوقورة في السبعين من عمره، عندما دخلت عليه رفع لي يديه المترهلتين، ووجدت نفسي أصافحه دونما غرابة أو استنكار، وتحدثنا كثيرا بغة الأعين في وقت قصير، فلا واحد منا يجيد لغة الآخر، ولم أجد شيئا لأقوله في ذلك الموقف بعد أن ألقيت التحية والسلام.

الأربعاء، 25 مارس 2009

معرفة الآخرين قوة

السلام عليكم
المعرفة قوة
كل معلومة تمتلكها هي أداة يمكنك أن تستغلها في وقت ما لتحقيق أهدافك
وكلما كانت المعلومة مرتبطة بمعلومات أخرى بصورة منهجية
كلما كانت فاعليتها أشد، وتأثيرها أشمل
ومن أهم المعارف التي يمكن لكل واحد منا أن يمتلكها بسهولة

هي معرفة الآخرين من حولك
جميعهم بلا استثناء، على اختلاف دياناتهم وأصولهم ومداركهم
معرفتك بإنسان آخر هي كنز لا نتصوره
ودائما نعتبره من المسلمات
ولكنه في الحقيقة من أعظم النجاحات التي يحققها المرء في حياته
ومعرفتك بالآخرين تزداد فائدتها كلما ارتقيت بها عن المادية البحتة
وارتفعت بها في سماء الإخوة الصادقة المخلصة
فهيا نعرف بعضنا البعض لنتعارف ويعترف كل منا بالآخر

أحمد السابعي
27 ربيع الأول 1430هـ

الثلاثاء، 17 مارس 2009

الرحلة الزمردية إلى الديار الهندية - الجزء الثاني

دخلنا مطار السيب الدولي (سابقا)، وأنا أدفع أمامي عربتين محملتين الواحدة أمام الأخرى، لأن أمي كانت تحمل أختي الصغيرة.

يراودني شعور غريب كلما دخلت المطار، وكأني في بُعد مكاني آخر هو صلة بين عالمين مختلفين، ارتفعت الطائرة و"خضتنا خض العالمين"، منفرة كل ذباب النوم الملتصق على جفني، ورغم أننا استمتعنا بالرحلة السماوية لساعتين فقط، إلا أنه قد مضت أربع ساعات من حياتنا، وبينما كنت أتساءل كيف سرقت الساعتين، نبهتني مضيفة الطائرة إلى ضرورة تعبئة استمارة التأشيرة قبل دخولنا إلى مطار بومباي الدولي.

كانت استمارة طويلة من وجهين، "والغم" بالإنجليزي، ولم تكن إنجليزيتي حينها بتلك القوة، فكتبت ما فهمته وتركت باقي الخانات فارغة، وعندما سلمتها للموظف المسؤول، رفض استلامها وقال بلغته أنه لا بد أن أملأ كل الخانات، وبمساعدة أمي التي تجيد تلك اللغة للترجمة بيني وبينه، قلت له املأها أنت، فرفض بدعوى أنه سيأتي فوج آخر من المسافرين، وأن ذاك سيعطل العمل، فذهبنا إلى شخص آخر ليملأها لنا، فكان أول رد له: "150 روبية"، وبعملية حسابية بسيطة اتضح أن ذاك يساوي ريالا ونصف، فرديت عليه: your big grandmother will give you، وبالعماني يعني"حبوتك العودة بتعطيك"، كنت غاضبا لذلك الاستغلال غير المعقول، ولكن أمي نبهتني أننا سنقضي الليل كله دون أن يساعدنا أحد، فرجعنا إليه، وبمضض ممزوج بحسرة لعدم بذلي المزيد من الجهد في حصة الإنجليزي، دفعنا له ذلك المبلغ.

وكنت حينها بكامل ملابسي العمانية التقليدية، وعندما دخلنا إلى قاعة كبيرة لختم الجوازات، وكنت أجر العربتين، رأيت منظرا عجبا، رأيت أكثر من عشرة أشخاص يركضون بكل ما أوتوا من قوة نحونا، فغمرتني نشوة عجيبة، وقلت في نفسي "كل هذا لأني عربي"، فهمست لي أمي أن هؤلاء جاءوا لحمل الحقائب، والناس هنا لا تعرف "لوجه الله"، ولأني ما زلت منفعلا من الموقف السابق، أوقفت العربتين، وتقدمت للأمام، ورفعت يدي عاليا، وهتفت بالإنجليزية: لا مال ... لا مال،no money ... no money فرأيت منظرا أشد عجبا، وسأحكيه بالبطيء، الكل ضغط على كابح السرعة، وتوقف مستعينا بأحد قدميه لتخفيف السرعة، حتى أن البعض سقط، ثم قفلوا كلهم راجعين، وأحدهم ينفض يديه إلى السماء استنكارا، حسنا "غيبوا، لم أطلب المساعدة في المقام الأول"، ولا أخفيكم أن دفع تلك العربات كان متعبا، وكان المطار كبيرا، ولم نجد المخرج بسرعة، ودرنا في دوامة، ومررنا بجانب أحد موظفي المطار مرتين، وهو يرى حيرتنا، ولكن لم ينبس ببنت شفة، فأرسلت له إشارة بعيني مفادها : لو قضيت الليل بطوله، لن تنل مني نصف روبية"، وطبعا هذا تمسك بمبدأ ما، وليس بخلا، وهذا هو الخطأ الفادح الأول، أنني لم أشتر تذكرة مباشرة إلى حيدرآباد وأعف نفسي من كل هذا العناء.

على العموم، كان هناك، ولله الحمد والمنة، باص توفره شركة المطار مجانا للمسافرين، لينقلك من المطار الدولي إلى المطار المحلي، ولما وصلنا، تناول العمال أغراضي، وحملوها في الباص قبل أن أنطق كلمتي السرية، وقبل أن أصعد الباص، لكزني مسؤولهم بإصبعه، وحدثني بإنجليزية مكسرة: صديق، شوية فلوس، نفر تعبان، فرديت عليه بإنجليزية أكثر تكسرا: رفيق، شوف، أنا نفر دفع فلوس كثير، دفع 20000 روبية أول من عمان منشان تذكرة، انته شغل، راتب موجود، سلام عليكم، وقبل أن يصل الباص وقفت والتصقت بالباب، وقبل أن يفتح كنت ممسكا بأغراضي، ورفضت أن يساعدني أحد، انطلقت الطائرة الأخرى إلى حيدرآباد، وكان الوقت نهارا، والمنظر من الأعلى غاية الإبداع والإتقان، مساحات خضراء كأنها البحر، وجبال متواصلة كأسنان المشط، وآية آيات الله في خلقه. وبعد طول عناء ممتع وجميل، وصلنا إلى حيدرآباد، بفضل الله.

السبت، 14 مارس 2009

الرحلة الزمردية إلى الديار الهندية - الجزء الأول


لأول مرة في حياتي دخلت مكتب السفريات ليلة السبت في الأسبوع قبل الأخير قبل بدء العام الدراسي 2003/2004م، ولأول مرة في حياتي أيضا، اشتريت، من حر مالي، تذاكر سفر إلى حيدرآباد - المدينة المشهورة بتاريخها الإسلامي العريق في الهند - لي ولأمي ولأختي الرضيعة، ولأنها أول مرة، ارتكبت خطئين، اتضح فيما بعد أنهما فادحان: اشتريت تذاكر رحلة يتوقف خط سيرها في بومباي لتغيير الطائرة، وتركت تاريخ العودة مفتوحا دون تحديد، وكان موعد الرحلة ليلة الثلاثاء القادمة من نفس الأسبوع، وفي صباح السبت التالي، ذهبت لجوازات القرم لأصدر جوازا لأختي الرضيعة، وبعد رحلة مخاض عسيرة بين المكاتب، قال لي الشرطي سيجهز جوازك يوم الاثنين، فأخبرته أن ذاك قبيل موعد سفري بفترة حرجة، "فما قصر" قال لي مر علي غدا وستجده جاهزا، وقبيل خروجي وجدت شرطيا آخر من نفس ولايتي يعمل هناك، فعرفته على نفسي، وأخبرته عن معاملتي، قال انتظر قليلا، "وما قصر أكثر وأكثر" دخل في إحدى المكاتب، وأصدر الجواز في الساعة، (هذه ليست واسطة بل مساعدة).

ثم ذهبت للسفارة الهندية في روي، لإصدار تأشيرة لي ولأختي، وصلت هناك في تمام الثانية عشرة، وذاك موعد الإغلاق، ورأيت الحارس يقفل الباب أمامي، فشرحت له ظرفي وطلبت منه باستجداء أن يدخل الجوازات إليهم في الداخل، وسآتي لاستلامها لاحقا، إلا أنه رفض أن يدخل معاملتي؛ لأنه لم يكن من نفس ولايتي بل من ولاية أخرى بعيدة، لذا رجعت وقد اقتنعت أن العيد لا يأتي في نفس اليوم مرتين، وعدت لمنزل صديق لي في الغبرة لأنام عنده، وفي صباح يوم الأحد، وقبل أن أتوجه للسفارة، ذهبت إلى مكتب مدير المعهد الذي كنت أدرس فيه، وكنت حينذاك في الصف الثاني الثانوي، لأخبره بأني سأتغيب عن الأسبوع الأول من الدراسة، "فما قصر هو الآخر"، وقال:"لا تطوّل أكثر من أسبوع" ـ"إن شاء الله، أستاذ، ولا يهمك"، ثم اتضح أنه هو الآخر ذاهب إلى روي لإنجاز معاملة في إحدى شركات التأمين، فأخذني معه. ونظام السفارة يقتضي أن تملأ استمارة طلب التأشيرة، ثم تسلمها مع الجوازات للموظف المسؤول لتأتي لاستلامها في فترة ما بعد الظهيرة، المشوار طويل من روي إلى الغبرة، ولكن "الحاجة مسودة وجه"، "واللهم لا اعتراض"، وكنت قد اتفقت مع المدير بأنه إذا اتفق وقت انتهائي مع وقت خروجه من الشركة فسنعود مع بعض، ولحسن حظي، قضي للوقتين أن يتفقا، ورجعنا إلى مقر المعهد في الغبرة، وكان المدرسون هناك يعدون العدة والعتاد للعام الجديد، تجولت بينهم قليلا ثم فورا للصلاة، وبعد خروجي من المسجد مصليا الظهر، وجدت أحد أصدقائي القدامى الذي غاب عن ناظري فترة طويلة من الزمن، فتعانقنا وتصافحنا وتبادلنا العلوم والأخبار، ومن أخباره أنه اشترى سيارة جديدة، ومن أخباري ما عرفتم، فعرض أن يأخذني للسفارة ويرجعني منها، وتسوق لك الأقدار خيرا وأنت لا تدري.

بعد التجوال الطويل، عدت إلى السويق، جهزنا متاعنا، واشترينا الحلوى العمانية، هدية لأخوالي في الهند، وبالطبع حولنا الريال العماني إلى روبية هندية، تمام التمام، كل شيء جاهز، هيا نركب الطائرة، ولكن قبل ذلك هناك ملاحظة: في طريقنا إلى المطار، أعطيت السائق شريط أناشيد "بديع الزمان" ليشغله لنا أثناء سيرنا، وذاك الشريط غدا دوما يثير شجوني عندما أستمع له بعد عودتي من الهند، لأنه ارتبط بذكريات مركبة: توديع والدي لنا؛ مرافقة إخوتي لنا في الطريق؛ وسعادة أمي؛ وأيضا نسي السائق أن يرجع الشريط إلي! وقد مضت ست سنوات تقريبا وما زلت أتمنى أن يعود.

الثلاثاء، 10 مارس 2009

المطاوعة، وما أدراك ما المطاوعة؟

أولا: في هذه المدونة أدون أفكاري القابلة للتطوير كلما اكتسبت خبرة أكثر أو انكشفت لي بعض الحقائق المتخفية.
ثانيا: لا أحبذ أن أتبع الأسلوب الأكاديمي - كما يعلمونا في الجامعة، وكما شدد أحد زملائي علي ليلة البارحة على ضرورة انتهاجه حتى أحسن من صورتي أمام العالم -، وفي الحقيقة، فأنا لا أريد أن أحسنها، أريد الناس أن يروا صورتي الحقيقة، وإن لم تعجبهم (فالأفضل أن يكون لسبب منطقي يقنعني، وإلا فالباب يطوف جمل).
وسأتكلم هنا بالطريقة العادية في عرضها (استخدام العامية أحيانا)، الغنية بالأفكارفي نفس الوقت، وذلك حتى لا يجرني الناس إلى محاكمهم على كل صغيرة وكبيرة إن أنا "تفرعنت" وأعلنت أنني أسطر هنا الحقيقة الأكاديمية الصرفة.

وهذا المنهج أتبعه في كثير من تعاملاتي، والسبب وراءه أنني مطوع.

وقبل أن أتحدث بلسان غيري من المطاوعة، وللعلم فهم مختلفون لأصناف عديدة، وحشرهم كلهم في فئة واحدة، مشابه لما فعله فاتحوا القارة الأمريكية عندما قتلوا التعدد الثري للقبائل الأصلية هناك، والمختلفة في تقاليدها ولغاتها وأطلقوا عليهم كلهم "الهنود الحمر"، ثم أخذوا يطلقون عليهم أحكاما عامة بأنهم كلهم كذا، وكلهم يفعلون كذا، وذلك بعيد كل البعد عن الصواب والمنطق والمنهجية السليمة. (لا أريد أن يأتي أحد ويقول أني قلت أن المطاوعة هنود حمر، أنا عارف أن أحد المتفيهمين سيفعل ذلك، ولكن هذا مجرد تشبيه لنقطة "حشر جماعات مختلفة تحت غطاء أسود مظلم واحد لا يكشف للرائي عن حقيقة تفاصيل ما وراءه). "أيوا ويش كنا نقول؟، نعم" قبل أن أتحدث عن هؤلاء أحب أن أسرد تجربتي، عل البعض يفهمني ثم يضعني في خانة مختلفة خاصة بي، ولا يقارني أبدا "بذاك المطوع اللي شافه ذيك اليوم واللي استوى معاه موقف ما حلو".

أنا والدي - رحمة الله عليه - من المطاوعة القدامى الذين من الله عليهم بحفظ القرآن وتعلم علوم الشريعة، وكان معلما للقرآن في قريتنا، ومن هذه الحقيقة أرغب أن أخبركم شيئين:
- أن الخلفية العائلية أثرت في الشخصية التي أصبحتها وكان لها دور مهم ولكنه ليس الأساسي.
- أنك عندما ترى تشدد "بعض المطاوعة" في الدفاع عن أنفسهم، فهم يدافعون عن "آبائهم"، أو عن مثلهم العليا التي يقتدون بها، ولم يستنكر البعض هذا أشد الاستنكار، ولا يستنكر - هو نفسه - تشدد البعض في الدفاع عن بعض لاعبي الكرة والمغنيات وعمن يقلدهم، ويصم الفريق الأول بالتخلف، والآخر بالانفتاح، خلونا - على الأقل - عادلين، ونعطي المطاوعة حق المساواة مع غيرهم، في تشجيع مثلهم العليا، ولو بالغوا أحيانا في بعض المناسبات، كما أنكم لا ترون بأسا في أن يعبر الشباب عن فرحتهم ببعض المبالغة إن فاز فريقه، ولا أقصد بالمبالغة "خرق القوانين"، بل الزينة التي تملأ الشوارع والسيارات.

- الجانب الآخر الذي أثر في شخصيتي: نوعية الكتب التي كان أبي - رحمه الله - يشتريها، والتي عودنا على قراءتها منذ نعومة أظفارنا، هذا الكم الهائل من المعلومات التي يتلقاها المطوع (الأصلي وليس المتحول حديثا)، تؤثر كثيرا فيمن سيكون، ودعونا الآن من قضية "عدم تفريق الغث والسمين من تراثنا"، والتدين اللاواعي والذي أعتقد بأهميتهما، ولكننا الآن أمام حقيقة أنه قد وجد في الوجود كائن يختلف عن البعض في أفكاره التي زرعت فيه منذ صغره، ولا بد أن يعترف هذا البعض أولا بهذا الوجود، كما يعترف باليهودي والملحد وغيرهما، وهذا الاعتراف ليس مجرد تشدقات باللسان، لا بد أن يكون له أثر، فأنت عندما تحرم هذه الفئة من الدخول في بعض الوظائف إلا إن تخلت عن بعض مبادئها، وعندما تنظر إليهم نظرة دونية ولا تصافحهم إلا بطرف أصابعك، وعندما تضيق عنهم الخناق في البوح بأفكارهم، وعندما لا تريد أن تنظر للأمر من وجهة نظرهم، ولا تريد أن تتعرف ولو قليلا على طريقة تفكيرهم، فما أنت إلا متشدق. وفي نفس الوقت فإن هذا الاعتراف لا يخول المطاوعة أن يتصرفوا في رقاب الناس كما يحلو لهم.

وهذا يقودنا إلى نقطة أن الانتقاد ينبغي أن يكون إلى تصرفاتهم (وهذا ضمنا يعني عدم التعميم في الحديث عنهم)، وليس مقبولا انتقاد من مثل:"والله ما عاجبني شكلك، فور ويل ... الخ)، وهذا أمر يوافق عليه العقلاء ظاهرا، ولكن أفعالهم وكتاباتهم تنبي عن خلاف ذلك.

وعامل آخر: هو دخولي لمعهد العلوم الإسلامية، والذي كان له الدور الأساسي في تكوين شخصيتي، حيث تلقيت العلوم الشرعية من منبعها، ودرست الأمر من جوانب مختلفة، واحتككت مع طوائف مختلفة، ودفعني شعوري بأني مختلف حتى عن بعض أفراد عائلتي، والذي بعضهم عارض "مطوعيتي"، وقال أنها موضة وستزول، وسأسقط كما سقط غيري، دفعني ذلك كله للبحث الحقيقي عمن أريد أن أكون، للبحث عن الإجابات لكل الأسئلة والشبهات، حتى وصلت إلى ما وصلت عليه.

أنا مطوع أي مطيع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطريقة التي فهمها بعض العلماء الذين أثبتت الشهرة القاطعة صدقهم واجتهادهم وتمكنهم من أدوات فهم الدين، وهذا لا يعني التقليد الأعمى أو تقديس الرجال، فلا بد أن يكون الوعي بسبب تحليل هذا وسبب تحريم هذا موجودا حتى لا تكون "مطوعية جوفاء"، وعلى سبيل المثال: عند نزول بعض الفتاوى الجديدة من هؤلاء العلماء فإني لا أسارع بتطبيقها فورا قبل التأني والتمعن، وأنا أثق فيهم في أمور العبادة والمعاملات الشرعية فقط، والتي لا يمكن للمرء أن يكون رأيا أفضل من الذي أنزله الله عزوجل ورسوله، ودعوى أن هذه الأمور هي من تفسير العلماء لنصوص الدين من دون وجود دليل على أن الدين أراد ذلك، هي باطلة فالدليل موجود، والعالم الحق لا بد أن يعرضه وبإمكان أي شخص إن كان يمتلك الأدوات اللازمة أن يعارض ذلك الدليل، وإلا فليصمت، ولا يدع جهله بأمور الدين وطرق تفسيره المقبولة يدفعه للحط من قدر العالم ورفض كل أقواله المدعمة بالحجج والممكن إثباتها، ثم يأتي بدين آخر من عنده ما أنزل الله به من سلطان، ويعيث في الأرض الفساد، وينكر البعض مركزية العلماء وتسلطهم على رقاب الناس "كما يدعي" وهي دعوى باطلة "أي التسلط"، ولكننا نراه هو نفسه يفرض من ثم آراءه التي جلبها من "حيالله مصدر"، ويطالب بحرية الرأي لرأيه، ولكنه لا يريد حرية الرأي للفريق الآخر، وهذا كما ذكرت مرارا هو من البعض، وليس الكل، وأنا هنا أرد على البعض الذي أرى أن له نفوذا وخطرا.

ومع ذلك، فأنا لا أتابع العلماء في كل ما يقولونه، وخاصة في كيف ينبغي أن أصرف دنياي وعلاقاتي مع أهلي وإخواني، فأنا أفهم الضوابط العامة للدين، ثم بعد ذلك فإن التطبيق يختلف حسب الظرف المكاني والزماني والعوامل الأخرى، هذه صورة عامة، ولكن التفاصيل قد تختلف، وهنا تكمن المشكلة، أن الناس يريدون أن يدعوا العلم بالشيء قبل أن يطلعوا على تفاصيله، ومن أهم التفاصيل التي يغفلها منتقدو المطاوعة، أن المطاوعة بشر حالهم حال كل الناس، يحبوا أن يأكلوا الطيب، وأن يصعدوا الجبال، وأن يتزلجوا على الجليد، وأن يعيشوا حياتهم، لذا فهم طبعا سيخطئون وتبدر منهم الهنات

وفي نفس الوقت على المطوع أن يتحمل مسؤولية قراره بأن يصبح مطوعا، وأن يكون قدر المسؤولية، ولكن قلي من الكامل؟ لذا أنا أتبع المنهجية التي ذكرتها في أول المقال: دائما أحب أن أؤكد للناس بشريتي بتعمدي ارتكاب بعض الهنات البسيطة أمامهم حتى يتعودوا علي، ويعرفوا شخصيتي، ولا يجرونني كل يوم إلى محاكمة !

وإلى لقاء آخر

أحمد السابعي

مسقط (سكن جامع الحوسني في خريس الحبوس/السيب)

False Judgement (imaginary



False Judgment
Ahmed Hamed Al Sabei

On a sunny and very hot day, I was walking down an alley in my village when I suddenly bumped into a full-bodied, tall and bald man. His appearance shocked me so much that I fell down, for he had a deep and red scar on his forehead. What made me more confused and shocked that he left me on the ground without uttering a single word and with a grim look on his face, as if the situation was completely my fault. Being very sensitive, I became so obsessive about the whole incident that I spent months talking badly about him with anyone I met. Later, I discovered that he was a fisherman whose name was Salem, and he lived alone and never mingled with people in real life contact. My first and natural feelings about Salem were that he was a cruel, insensitive and emotionless man; however, my impression was proved to be wrong years later, and I found that he was, in his own way, the most kind and caring person I have ever met.

My initial reaction, that Salem was a cruel and harsh man, was due partly to his distinctive body features and mainly to his cold and insensitive attitudes towards others. He had a huge rounded body, and was relatively tall. A little short hair was wandering on the top of his scalp which was supposed to make people laugh; instead of that, his red scar had made them disappear. For several years, I kept meeting him, accidentally, at the rare times he went out in public in the village allies, in the suq, where he came to sell his daily stock of fish, and in the mosque; and I never had a conversation with him, nor did most of the villagers. The only words, which came out of his mouth, were the prices of his fish. Even then, he would not argue or discuss anything. This kind of behavior circled him with an unnecessary atmosphere of uneasiness and disaffection.

Then, in a very long night, a strange incident made me change my opinion of him completely. At that night, my whole body was sweating and I could not sleep, so I went out for fresh air. To my great astonishment, I found Salem sneaking out on his toes from one of the village's allies, carrying a huge bag on his back. I followed him secretly to discover what he was doing. He went to certain houses in the village and left some items in front of the doors. They were small bags of rice and of other types of food and they were given in this secret manner for all people in need in our village. This incident really opened my eyes on a very different part of his personality which was kept hidden for a long time. I discovered, then, that I had never tried honestly to understand him. Therefore, in the early morning of the next day, I started questioning all the villagers about him and his past, but only a very few of them were able to tell me the truth; and only after a dogged persistence of my side for they had promised Salem that they would not tell anybody his story. His beloved wife and children had died in a car accident and that devastated him completely. He cut off all the people around him and abandoned everything in his life except two things: his charity acts, and his work.

Now, I believe that he was the most kind and caring person I have ever met, despite his gloomy and emotionless appearance. And, although his behavior might have seemed to others inexcusable, I have understood his situation fully. He was very attached to his young and beautiful bride and to his children who were everything in his life. However, shortly after the horrible accident, people insisted on his moving on and even started suggesting another bride for him. They did not appreciate his love to his dead wife and did not respect his grieve. Therefore, he boycotted all of them, stopped having conversations with them and never went out of his house except in case of emergency. However, the original kindness in his heart did not allow him to abandon his charity acts, so he continued doing them in his own way.

I went one day to his house, and after a series of long knocks, he opened the door. He did not show any signs that he was going to speak, so I seized the opportunity and apologized to him for all the bad talks I had said about him from his back. Then, I kept talking, explaining my whole point of view of him and what people had done to him, and saying that I understood his situation. Then, for my greatest joy, he let me in his house, and then we became best friends
.

الاثنين، 9 مارس 2009

قصيدة


أرسل لي زميلي خاطرة، فزارتني القريحة إحدى زياراتها النادرة، فقلت هذه الأبيات:


أنا حي وكل الموت يرصدني وأرصده


ولن أرضى بأن أحيا بلا ثمنٍ أكابده


ولن أشكو إذا ما غصت في حزَن ومنصبة


ولن أصخي لمن يبكي وتقلقني شواهده


سأبقى صامدا جلدا على شر ومسغبة


بلا خوف ينغصني ولا ندم أضاجعه


وأدعو الله دوما أن يؤيدنا بمرحمة


تسوق الخير ناصية الألى غفلوا بدائعه


هو المولى فلا هول يصنفنا بشرذمة


إليه الملتجى رب، فلا تفنى عوائده

زنجي يتحدث عن الأنهار (ترجمة)


لانجستون هاغس
ترجمة أحمد السابعي

لقد عرفت أنهارا :
لقد عرفت أنهارا قديمة قدم العالم
بل هي أقدم من تدفق الدم البشري
في عروق الإنسان

فارتقت روحي وأصبحت عميقة كعمق الأنهار

أنا في الفرات تطهرت عندما كان الفجر يافعا
وبنيت كوخا جنب نهر الكونغو فهدهد لي حتى أنام
أنا من اهتم بالنيل وشيد الأهرامات على ضفافه
أنا من استمع لغناء المسيسيبي حينما ذهب لنكولن
إلى نيو أورليانز، وقد رأيت صدر النهر الموحل يلمع ذهبا
عند الغروب


لقد عرفت أنهارا :
أنهارا قديمة، وقاتمة
فارتقت روحي وأصبحت عميقة كعمق الأنهار

صراع الديكة (نشرت في أشرعة) قصة خيالية


والدي طبيب بيطري، يأتي إليه الناس من كافة القرى المجاورة ليعالج لهم حيواناتهم المريضة، ويقدم لهم الأدوية والإرشادات حول كيفية العناية بها، ولكثرة مشاهدتي له يعالج ويتعامل مع مختلف أنواع الحيوانات والطيور، بدأت تدريجيا أتملك مقدرة التواصل معها، بدأت أفهمها وأفهم احتياجاتها، وذلك استحوذ على تفكيري وشغل بالي، فلا تراني إلا هائما في أرجاء القرية ألاحق طيرا هنا، وأمعن النظر في شاة ترضع وليدها هناك. وفي يوم من الأيام استدرجتني ملاحقتي لحمار يترنح ترنحا غريبا إلى خارج القرية حيث المزارع والبساتين، ومن بعيد لاحظت في أحد تلك البساتين الذي يبدوا أنه قد هجر منذ فترة لموت وتهاوي نخيله لاحظت حركة غريبة كأن مجموعة من الأشياء تصطدم ببعضها، لم أستطع تمييزها لبعد المسافة ولوجود شباك البستان وبعض الشجيرات في مرمى بصري، فتركت الحمار لحال سبيله وتوجهت نحوها، وكلما اقتربت تكشفت لي بعض الحقائق، إنها كائنات، نعم، ولونها أحمر قرمزي، إنها طيور، ما نوعها؟ اقتربت أكثر... يا للعجب إنها معركة طاحنة بين أربعة من الديكة، هرولت حتى وصلت إلى البستان فتحت الباب بصعوبة واختبئت خلف إحدى أشجار النخيل، أمر لا يصدق، ثلاثة من الديكة يهاجمون ديكا آخرا، لا، إنهم لا يهاجمونه إنهم يحاولون الوصول إلى شيء خلفه لم أستطع تمييزه لوجود كومة كبيرة من أوراق شجر المانجو، والديك يمنعهم بكل ما أوتي من قوة، يهاجم ذا بمنقاره ويكر على ذلك بمخالب أصابع رجليه الصغيرتين، ويضرب وجه الثالث بجناحيه، والريش الأحمر يتطاير في ساحة المعركة، بدا أنه في حالة استنفار عام، بدا أنه سيبذل روحه رخيصة دفاعا عن ذلك الشيء، عقدت الدهشة كل مفاصلي، ولغرابة الموقف وشدة وطيس المعركة لم يرف لي جفن، ولم أقوى على الحراك، ولكن بعد فترة لاحظت أن الديك المهاجَم بدت قواه تخور، وقد أنهكه التعب، وهدت عزيمته الجراح، ولما ظننت أن المعركة قاربت على الانتهاء إذا به يجري نحو تلك الكومة ويمسك برجليه شوكة نخيل ملقاة على الأرض، طويلة وسميكة، ويقفز بها في الهواء نحو أحد مهاجميه، طاعنا صدره، وجاعلا منه الدماء تسيل، ودب الرعب في الديكين الآخرين، وأخذا يفران مطلقان صيحات هلع وخوف، والثالث خلفهما يجر رجليه، حتى اختفوا عن الأنظار، لحظة صمت طويلة، وبعدها سقط الديك على الأرض كما تسقط النخلة الشامخة، استجمعت قواي وركضت نحوه، حملته بين ذراعي، ما زال يتنفس، أردت الرجوع به إلى البيت ولكن تذكرت أنه كان يدافع عن شيء ما باستماتة لا نظير لها، نظرت خلف الكومة فإذا دجاجة ملقاة على الأرض ترتجف ارتجافا شديدا، حملتها هي الأخرى ورجعت بها إلى البيت، وطوال الطريق هاجمتني آلاف الأسئلة حتى ظننت أصبت بالصداع، وصلت إلى البيت وطلبت من أبي أن يعالجهم، وأخذ يسألني بفضول عما حدث، ولكنني خرجت بسرعة عائدا إلى نفس المكان باحثا عن أجوبة، وإلا إن رأسي سينفجر، ولما وصلت أخذت نفسا عميقا وركزت كل قواي العقلية، وبدأت بالبحث، لماذا يهاجم الديكة ديكا، أو بالأحرى ماذا يريدون من دجاجة مريضة؟ هل يريدون أكلها، أم الاعتداء عليها، لا، مستحيل، لا تفكر الديكة بخبث هكذا كما يفعل الإنسان، نقبت تلك الكومة وبحثت جيدا فوجدت الجواب، توجد تحتها كمية ليست بالكبيرة من الحبوب، ويبدوا أنها قديمة، إذن الجوع هو السبب، ولكن لماذا تهاجم بعضها بعضا؟، لماذا لا تخرج للبحث عن الطعام؟ تجولت في أنحاء المزرعة فوجدتها قد سورت بشباك كبير تعلوه شبكات ملئت مسامير وحديدا تمنع دخول اللصوص، وجدت في إحدى تلك المسامير جثة ديك حاول الطيران هاربا وفشل، اتضحت كل جوانب القصة، هجر أصحاب البستان بستانهم المسور بإحكام، وقد أغلقوا الباب خلفهم، تاركين هذه الطيور دون أن يطلقوا سراحها، وربما تركوا أيضا كمية من العلف تكفي دهرا، ولكنه مع مرور الزمن قل وأصبح نادرا، فأخذت الطيور تهاجم بعضها بعضا بوحشية هكذا، خرجت أجر قدمي، وقد تركت الباب مفتوحا على مصراعيه.

السيد فوكس (ترجمة نشرت في العدد الثالث من ملحق الجسر)


قصة: هايدي آن هاينر
ترجمة: أحمد السابعي

كانت الآنسة ماري شابة جميلة، لها أخَوَان فقط، بينما لها من العشاق ما تعجز عن عدهم، ولكن من بينهم كلهم كان أشجعهم وأكثرهم شهامة السيد فوكس، الذي التقت به عندما أقامت لفترة في بيت أبيها الريفي، لم يكن أحد يعرف من هو السيد فوكس، لكنه قطعا كان شجاعا، و بلا شك من الأثرياء، ومن بين كل عشاقها اهتمت الآنسة ماري به فقط. وفي نهاية الأمر اتفقا على الزواج. سألت الآنسة ماري السيد فوكس عن مقر سكناهما بعد الزواج، فوصف السيد فوكس لها قلعته وأين تقع ولكن لم يطلب منها هي أو إخويها القدوم لرؤية القلعة، وهو ما استغربته الآنسة ماري.


لذلك وفي أحد الأيام قبيل موعد العرس، بينما كان أخوة الآنسة ماري خارج البيت، و السيد فوكس قد ذهب إلى مكان بعيد لمدة يوم أو يومين لقضاء بعض الأعمال ـ على حد زعمه - شرعت الآنسة ماري في البحث عن قلعته، وبعد عدة جولات بحث شاملة تمكنت أخيرا من الوصول إليها. كانت القلعة مبنى رائعا وقويا، محاطة بجدران عالية، وخندق مائي عميق، وعندما دنت من مدخل السور رأت مكتوبا عليه: " كن جسورا، كن جسوراا".


ولأن المدخل كان مفتوحا دخلت، ولم تجد أحدا؛ فصعدت إلى باب القلعة الداخلي، ووجدت مكتوبا عليه: "كن جسورا، كن جسوراا، ولكن لا تتهور".
ورغم التحذير واصلت تقدمها، حتى دخلت إلى الردهة، وارتقت الدرجات العريضة حتى وصلت إلى باب في رواق مكتوبا عليه:
" كن جسورا، كن جسوراا، ولكن لا تتهور
لكيلا تتجمد دماء قلبك من الخوف".
ولأن الآنسة ماري امرأة شجاعة؛ فتحت الباب، فماذا تظنون أنها رأت؟ لقد رأت أجسادا وهياكل لنساء جميلات ملطخة كلها بالدماء، عندها أحست الآنسة ماري أنها كان يفترض بها الفرار من ذلك المكان المروع قبل مدة، فأغلقت الباب ومشت في الرواق، وما كادت تهبط من الدرجات لتخرج من الردهة إلا ورأت من خلال النافذة السيد فوكس يجر امرأة جميلة وشابة طوال الطريق من مدخل السور إلى باب القلعة.
أسرعت الآنسة ماري بالنزول من الدرجات، واختبأت خلف برميل في الوقت المناسب، وفي نفس اللحظة دخل السيد فوكس ومعه المرأة المسكينة والتي بدا أنها قد أغمي عليها. وعندما أصبح بالقرب من الآنسة ماري، رأى السيد فوكس خاتما ماسيا يبرق لمعانا في إصبع المرأة الشابة التي كان يجرها، فحاول أن ينزعه، ولكنه ثابت في مكانه بإحكام يرفض أن يتزعزع أو يخرج، فأخذ السيد فوكس يلعن ويشتم، واستل سيفه من غمده، فرفعه وأنزله على يد تلك المرأة المسكينة، فبتر السيف يدها التي طارت عاليا في الهواء، وسقطت من بين أماكن العالم كلها في حضن الآنسة ماري. بحث عنها السيد فوكس لبرهة، لكنه لم يخطر بباله النظر خلف البرميل، لذا أكمل - أخيرا- جره المرأة الشابة صاعدا الدرج ثم إلى الغرفة الدموية.
وفي اللحظة التي سمعته يجتاز الرواق، زحفت إلى خارج الباب، ومنه نزولا إلى أن مرت خلال مدخل السور، ثم ركضت بكل ما أوتيت من قوة إلى بيتها.
واتفق أنه في اليوم التالي مباشرة سيكون التصديق على عقد زواج الآنسة ماري والسيد فوكس، وكان هناك إفطار فخم يسبقه. وبينما كان السيد فوكس جالسا على طاولة مواجها الآنسة ماري، نظر إليها، وقال " كم تبدين شاحبة هذا الصباح، عزيزتي".
ردت عليه"نعم" وأضافت:" لم أنم جيدا ليلة البارحة، لقد راودتني أحلام مروعة".
قال السيد فوكس: "دائما ما يأتي الواقع مخالفا للأحلام، ولكن أخبرينا حلمك، فصوتك العذب سيجعل الوقت ينساب حتى تأتي الساعة السعيدة".
قالت الآنسة ماري:" لقد حلمت أنني ذهبت صباح أمس بحثا عن قلعتك، ووجدتها في الغابة، بجدرانها العالية، وخندقها العميق، وقد كُتب على مدخل سورها: "كن جسورا، كن جسورا".
قال السيد فوكس:" لكن الواقع ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك".
- وعندما أتيت إلى باب القلعة وجدت مكتوبا عليه: "كن جسورا، كن جسورا، ولكن لا تتهور".
- لكن الواقع ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك.
- وعندما صعدت في الدرج، وأتيت إلى الرواق وجدت في نهايته بابا قد كتب عليه:" كن جسورا، كن جسورا، ولكن
لا تتهور، لكيلا تتجمد دماء قلبك".
- لكن الواقع ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك.
- ثم ... ثم فتحت الباب، فإذا أجسادا وهياكل لنساء مسكينات ميتات، ملطخات كلهن بدمائهن.
- لكنه ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك، ومعاذ الله أن أفعل شيئا مثل ذلك.
- ثم حلمت أنني أسرعت بالنزول من الرواق، وفي اللحظة التي هممت فيها بالنزول من الدرجات رأيتك يا سيد
فوكس قادما إلى باب الردهة، تجر خلفك امرأة شابة ومسكينة، غنية وجميلة.
- لكنه ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك، معاذ الله أن أفعل شيئا مثل ذلك.
- أسرعت إلى أسفل الدرج، وفي نفس اللحظة التي اختبأت فيها خلف برميل، دخلت أنت يا سيد فوكس تجر المرأة
الشابة من ذراعها، وعندما مررت بجانبي يا سيد فوكس خيل لي أني رأيتك تحاول أن تنزع منها خاتمها الألماسي،
وعندما لم تستطع يا سيد فوكس، لقد بدا لي في حلمي أنك استللت سيفك وقطعت به يد الآنسة المسكينة لتحصل
على الخاتم.
- لكنه ليس كذلك، لا ولم يكن كذلك، ومعاذ الله أن أفعل شيئا مثل ذلك.
وعندما همّ أن يتكلم مجددا وهو يقوم من كرسيه، صرخت الآنسة ماري قائلة: "لكن الأمر كذلك، ولقد كان كذلك، وهذه يد وخاتم يجب أن أريكم إياهما" وسحبت اليد المقطوعة من ثوبها، ووجهتها مباشرة إلى السيد فوكس.
وفي الحال استل أخواها وأصدقاؤها سيوفهم وقطعوا السيد فوكس إلى آلاف الأشلاء.

رؤيتك حول الحياة المعاصرة


طلب منا أن نكتب مقالا عن رؤيتنا حول الحياة المعاصرة، وقبل أن أشرع في ذلك قفز إلى مقدمة عقلي تساؤل شغل تفكيري لوهلة، هل يمكن للإنسان العادي أن يبني نظرة شاملة ودقيقة لهذه الحياة ذات الخيوط المتشابكة والمعقدة تعقيدا عظيما، حيث التقنية أرخت سدولها على العالم أجمع بأمواج من المخترعات والآلات، والتي غيرت من وجه الأرض بوتيرة سريعة تفقد المرء أنفاسه وتتركه لاهثا مذهولا، حيث المادة وحب السيطرة أنشبا رماحهما في قلوب الخلق فغدوا لا يبالون كم من الدماء ستذرف وكم من الأرواح ستزهق في سبيل ذلك؟ لا أدري حقا إن كانت الإجابة ممكنة، ولكن إليكم هذه الخطرات.
إن كان الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى يرى أنه من يعش ثمانين عاما من أعوام زمانه لا بد أن يمل ويسأم، فإني أرى أن زماننا أقفل على السأم والملل في إحدى زواياه المقفرة، فلو أنه لم يكن لنا من مخترعات هذا العصر إلا شبكة الإنترنت التي تربط بين المشرقين والمغربين ربطا سريعا لكفى، فكيف وإنسان هذا العصر أبحر في الفضاء وغدا يستقصي أخبار المجرات البعيدة، وما هذا إلا قطرة من غيث، فأنى للمرء أن يصاب بالملل وسط هذه المعمعة التي لا تهدأ أركانها، وفي كل يوم تخرج علينا بثوب جديد، حتى أمسى العالم مكتظا بأنواع شتى من المذاهب والنظريات والأفكار والمخترعات والتي تعرض علينا كل عشية وضحاها، وأصبح عقل الإنسان غابة متنوعة الأشجار ومتشابكة الأغصان.أن يكون الشخص آمنا في سربه، معافى في جسده، مكتفيا بقوت يومه أمر مثالي جميل، ولكن حياتنا المعاصرة لن تسمح للمرء أن يقتصر على ذلك، ليس لأن القناعة أضحت خلقا مرفوضا، بل لأن هناك عشرات الفواتير ينتظرها المرء في نهاية الشهر، ولأنك إن أردت بدء تجارة فعليك أن تمر بمراحل عديدة، وأن تجهز حزمة من الملفات والأوراق، ولأنك إن أردت الحج لن تسم باسم الله وتركب ناقتك وتنطلق، بل عليك أن تنال رضا وزارة الصحة والأوقاف والشرطة والبلديات، أصبحت الحياة معقدة، وما زادها تعقيدا هذا التغير والتطور السريع الهائل، فما من شيء في زماننا يألفه الفتى حتى تأتيه الأخبار من كل حدب وصوب أنه أضحى عتيقا باليا، ووسائل الإعلام لا تقل خطرا ومنزلة في تعقيد حياتنا، وقلب الموازين رأسا على عقب، حيث أضحى القاتل بطلا، والمنسلخ عن هويته وعن ذاته مجددا، والمدمر لتراث أمته إصلاحيا متقدما.

رد بخيل على لائميه


يا لائمي: أنشبتم فيّ رماحَ لومِكم وعتابِكم، واتهمتموني زورا وبهتانا بما أنا منه براءٌ براءة الذئب من دم يوسف، رأيتموني على حين غرة فغرّكم مظهري واستهنتم بحالي وقد علمتم أنما المرءُ بأصغريه، ثم قادكم تسرعكم فغفلتُم عن نيتي ومقصدي وأسأتم تفسيرَ أعمالي وقد علمتم أن نيةَ المؤمنِ خيرٌ من عمل يديه، ثم تقاعستم عن طلب الحق فجهلتم منطقي وبياني وركنتم إلى الظنونِ وقد علمتم أن الجهلَ والظنَّ لا يُغنيان من الحق شيئا، لبستم كبرَكم وعنادكم وأعماكم صلفُ قلوبكم وضيقُ عقولكم، وتلك – تالله – مهلكة ما بعدها مهلكة، فإن أردتم البقاء على ذلك فأنتم وأنفسَكم وإلا فهلموا إلى ميزان الحق نحتكم، وإلى كتاب الله وسنة رسوله نختصم، وبطرائق العقل والحكمة نستنير ونفتهم، لنستبين أينا أشد غوايةً وأبعدَ عن الحق سبيلا.
يا لائمي: زعمتموني بخيلا، وما أدري أي شيطان وسوس لكم بهذه الفكرة، فما أنا إلا عبد ذليل يتوقى أن يقترف جرما في حق ربه المنعم الجليل، ويخشى أن يدخله في زمرة المغضوب عليهم يوم الدين، فالله صرح في قرآنه دون مواربة أنه لا يحب المسرفين، ورغم علمكم بآي الكتاب إلا أنكم استمررتم في غيكم ولم يردعكم نصح أولي الألباب، فوسمتموني بأشنع الصفات، ولمزتموني بأخس الألقاب، وأنا في أصل أمري متبع للمصطفى في هديه حيث يقول: بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وحيث يقول: ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب.
يا لائمي: تشنون علي هجماتكم وتشهرون بي بين الورى، وكلما لقيتموني لقنتموني التوبة والاستغفار، وأنتم - لو بصرتم بحالكم - أحق بهذه الملامة، وأولى أن تُملأ قلوبُكم حسرة وندامة، فقد أسرفتم في مآكلكم ومشاربكم، وتمخطرتم في ملابسكم، وتعاليتم في مساكنكم، ومشيتم في الأرض مرحا وتبخترا، وعددتم ذلك كرما وعزا وفخرا، وعددتم من خالف طريقتكم السقيمة بخيلا شحيحا، فإن كان الاقتصاد والتدبير وطاعة المولى القدير بخلا فأنعم به من صفة كريمة.
بخلوا فعمت في البلاد منافع وفاضت أرزاق وتمت فوائد
يا لائمي: لو استدبرتم من الحياة ما استدبرت، واستقبلتم منها ما استقبلت لعلمتم أنها فرس جموح لا يمكن للمسرف المهمل أن يروضها، ولأيقنتم أن سر البقاء هو في الحفظ والإبقاء، وجمع اللوازم واتخاذ الاحتياطات، وتقسيم رزقك المقسوم عليك على أيام حياتك بطريقة لا تتركك في نهاية المطاف ذليلا متسولا محتاجا، وقول من يقول أن الإيمان بالله والتوكل عليه والثقة بما عنده تجعل المرء ينفق دون خوف من الإفلاس هي كلمة حق وضعت في غير موضعها، فالله دعا في كتابه إلى الأخذ بالوسائل والأسباب، وما قصة يوسف عليه السلام عنكم بغريبة، فقد حفظ ما يبذرون في سنبله في سبع سنوات سمان استعدادا لسبع عجاف، وأنا إن قترت وأمسكت فذاك استعدادا لما يستقبلني من الأيام الشديدة وما أكثرها، وإن كتب الله علي الموت فإن أترك أبنائي من بعدي أغنياء خيرا من أتركهم عالة يتكففون الناس.
يا لائمي: إن كنت لا أشرب إلا الماء فما العيب في ذلك فالله جعل الماء سر الحياة فكيف تأمرونني أن أغير مشربي؟ أتريدونني أن أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكيف أدخل في أوردتي وشراييني ما لا تعرف مكوناته، ثم أنكم تتهكمون علي وترمونني بأقذع العبارات، لاقتصار مأكلي على التمر، يا إخوتي لمرة أنصتوا إلي: بكل بساطة أنا أحب التمر أعشقه عشقا يخالط سويداء قلبي، منذ أن ولدتني أمي وقد حنكني أبي بتمرة، ثم إن التمر غذاء عاش عليه أجدادنا عصورا مديدة وأمدهم بكل مقومات الحياة، وفوق ذلك فقد أثبت العلم الحديث فوائده العظيمة للصحة والجسم.يا لائمي: هذه حياتي فدعوني أعيشها، وهذا ديني فاتركوه لي، ولا تشغلوا بالكم فيما ترونه عيبا في ولا تملكون عليه دليلا، وانظروا لعيوبكم التي تملأ جيوبكم: واعلموا أن لومكم لا يؤثر علي شيئا فإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل

تقرير عن كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي


قدم لنا أبو حيان التوحيدي عصارة فكره في ثوب قشيب يزهو خالدا مدى الدهر كتابه الذي يعد من أمهات الكتب في التراث العربي، والذي سماه "الإمتاع والمؤانسة"، وهذا السفر العظيم الذي ينم عن معرفة عظيمة وحكمة بالغة وإطلاع واسع وفهم عميق يأتينا بوجهه المشرق؛ لينقل أرواحنا والدهشة والإعجاب تسيطر عليها إلى عالم آخر وبيئة غير التي نحن فيها الآن ، لينقلنا إلى بغداد القرن الرابع الهجري إلى قصور الخلفاء ومجالس العلماء إلى المساجد والكتاتيب والدواوين وأسواق العطارين، ثم ينفح علينا من فقه العلماء، وفلسفة المناطقة ونحو اللغويين، وإنشاء البلغاء، وشعر المبدعين، وخيال الكتاب، وسياسة الحكام والأمراء، ويستولي على أفكارنا بحوار المفكرين، ونقاش العلماء والمجادلين، كتاب يضمن لك جولة سياحية مجانية ممتعة لا تشعر فيها بالملل ولا السأم، ولن تتردد في العودة إليها مرارا وتكرارا، ومن لم يمر على الكتاب ولم يستنشق عبير روائحه وزاكي عطوره فقد فاته الخير العميم، وها أنا أقدم في هذا التقرير ملخصا عن الجزء الأول منه متطرقا إلى مؤلف الكتاب، وسبب تأليفه، وطريقة عرضه، ومحتوياته، والأسلوب المتبع فيه.

كتاب الإمتاع والمؤانسة:

هو كتاب يجمع مسامرات ومحاوارات أبي حيان التوحيدي مع الوزير أبي العارض، يتطرق فيه إلى أهم موضوعات عصره والرد على القضايا والتساؤلات التي يثيرها الوزير بأسلوب سردي جميل، قام بتأليفه عام 374هـ، وإليكم هذا الملخص عنه، وعن مؤلفه:

مؤلف الكتاب:

هو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، عاش في القرن الرابع الهجري، وقضى معظم حياته متنقلا بين فارس وبغداد، وانضم إلى الوزير ابن العميد الملقب بذي الكفايتين إلا أنه لم ينل عنده مأموله لأن الوزير ابن عباد قلب حياته جحيما، وناصبه العداء منذ البداية، فلجأ إلى صديقه أبو الوفاء المهندس وهو أحد أعيان بغداد ليعينه ويتوسط له عند الوزير أبي عبد الله العارض، ففعل وتم له مراده، وانضم لمجلسه يسامره ويحادثه في شتى مجالات المعرفة فترة من الزمن، ألف العديد من الكتب، واشتهر بمخالطة الصوفيين، وبتعمقه في الفلسفة والمنطق الذي درسهما على يد شيخه أبي سليمان المنطقي، توفي في حدود 400 هـ.

سبب التأليف:

لما ساعد أبو الوفاء المهندس أبا حيان في التوسط له عند الوزير أبي العارض، واستقر المقام بأبي حيان التوحيدي وأصبح من الأصفياء المقربين، مضت فترة انقطع فيها عن صديقه أبي الوفاء، فأحس هذا الأخير بالبعد والجفاء والنكران للجميل، فاستدعاه وخاطبه خطابا شديد اللهجة معاتبا إياه ولائما منه سوء تصرفه، واعتداده بنفسه، وهدده بالمقاطعة إلا إذا قام بنقل كافة المسامرات والمحاورات التي جرت بينه وبين الوزير إليه، فوافق أبو حيان على ذلك، وبدأ في تسطير كتاب يبدأ بعتاب أبي الوفاء، ورده هو عليه، ثم المسامرات التي جرت بينه وبين الوزير.

طريقة العرض:

لم يتبع أبو حيان تصنيفا موحدا لموضوعات كتابه، وإنما قسمه إلى ليالٍ يذكر في كل ليلة القضايا التي طرحت ونوقشت، والأسئلة التي أثيرت والأجوبة التي رد بها عليها، ولم يكن من الممكن توحيد الموضوعات لأنها كانت تثار من وحي اللحظة وحسبما يجري به الحديث والحوار، وأيضا لأن الموضوعات أتت متعددة مشاربها، متنوعة مداخلها ومخارجها، فغطت مساحات واسعة من المعرفة، والطريقة التي اتبعها أبو حيان في كتابه تحقق تماما عنوانه، وتؤدي بكل جدارة الوظيفة المناطة بها وهي إمتاع القارئ وإيناسه، وذكر في المقدمة عتاب أبي الوفاء له كاملا، ورده – أي أبي حيان – عليه، وكان الوزير غالبا هو السائل، وأبو حيان المجيب، فيبدآن ليلتهما بقضية ما يختارونها بناء على عدة أسباب: إما توضيحا لحادثة وقعت في البلاد، أو تفسيرا لمعضلة من المعضلات الفكر طرحت في الجلسة، أو لمجرد طلب الثقافة العامة، وتختم الليلة غالبا بملحة هي عبارة عن طرفة أو أبيات شعرية أو عبرة يلقيها أبو حيان، وكان الحديث يستمر حتى يغلبهما النعاس، وأتى الكتاب في أربعين ليلة موزعة على ثلاثة أجزاء، ونحن سنتطرق للجزء الأول ونرى أن ذلك كافيا ليعطينا فكرة عامة وجيدة عن الكتاب.

المحتويات:

مثلما ذكرنا سابقا فإن محتويات الكتاب لم تأتي منتظمة، وإنما تركوا الأمر على عواهنه، فنلاحظ أن الحديث في الليلة الأولى أتى ليضع اللبنات الأساسية للمنهجية التي ستسير عليها هذه المسامرات والأحاديث، ثم انتقلوا لمناقشة أهمية التحدث والحديث، وضوابطه وعلاقته بالعقل، والفرق بين المحدث والحادث والحديث، وهكذا نلاحظ انسيابية القضايا المطروحة وعفويتها؛ ولذلك تنوعت محتويات الكتاب تنوعا غنيا ووافرا، حيث غطت مجالات عديدة من المعرفة، امتدت إلى عصور متباينة، وشملت مناطق مختلفة في العالم، وكان تطرقهم للقضايا يختلف حسب الموضوع ومسار الحديث فأحيانا يكون معمقا ومفصلا، وأحيانا يكون مجرد إشارات، وأذكر هنا أمثلة على القضايا التي تطرق إليها الكتاب (لا يشترط أن تكون مشروحة بالتفصيل):

- في الإلهيات والعقائد، ومثال ذلك: تطرقهم لعقائد بعض الأمم، مثل: الهنود، واليونان، والفرس (الزرادشتية)، وإيراد أبي حيان لكتاب العامري في القضاء والقدر.
- في الفلسفة وعلم المنطق وفي الصوفيات والروحانيات، وتطرق الكتاب في مواضع عديدة لذكر المواقف المتعددة لعلماء ذلك العصر من هذه العلوم، وكان أبو حيان كثيرا ما ينقل آراء ودروس شيخه أبي سليمان المنطقي في قضايا مشابهة من مثل تعريف النفس والعقل والسكينة، وفي المنطق ذكر أبو حيان مقالا لابن يعيش في الممكن والفرق بينه وبين الواجب والممتنع، وذكر الحوار الحامي الشهير بين أبي سعيد السيرافي النحوي الفقيه، وأبي بشر متى المناصر للعلوم المنطقية اليونانية والداعي بشدة إليها، و لميوله الصوفية وتعمقه في علوم المنطق أطنب أبو حيان في مرات عديدة في التحدث عنها وذكر أهم قضاياها وبحثها.
- في اللغة بكافة أقسامها من صرف ونحو وبلاغة وغيرها من علوم اللغة: حيث كان الوزير غالبا ما يسأله عن مسألة لغوية وأبو حيان يجيب عليها، وكانت الأسئلة تدور حول الفروق اللغوية، وتوضيح معاني بعض الكلمات الغريبة ومواقع استخدامها، وعن بعض الأفعال وما هي الحروف التي تتعدى بها، وكان أبو حيان يتحدث أحيانا عن اللغة العربية ذاكرا ما تتميز به بشكل عام عن اللغات الأخرى، وأحيانا كان يدافع عن علم خاص كمدافعته المستميتة لعلم البلاغة وإفحامه لمن فضل علم الحساب عليها، وكذكره لمحاورة أبي سعيد السالفة التي بين فيها أهمية النحو في جعل الحياة أفضل بتسهيل وتيسير التواصل بين الناس وجعله أكثر كفاءة وفعالية.
- في الأدب بكافة أقسامه من خطب ورسائل ومقولات وأشعار، ففي مرات كثيرة كان يستشهد بأبيات لشعراء متعددين من عصور مختلفة كأبي الورد وذي الرمة والقطامي والحجاج (شاعر معروف في عصره)، وأيضا كان يستشهد ويذكر خطبا ومقولات لفصحاء ومتكلمين سابقين، ويزين حديثه أيضا بقصص غريبة وحوادث عجيبة وقعت في عصور مختلفة.
- في قضايا عصره وسياسة حكامه، وفي وصف وزرائه وعلمائه وشعرائه وأدبائه، ففي مرات عديدة كان الوزير يسأل أبا حيان عن رأيه في مجموعة من الشعراء والعلماء في مجالات مختلفة، وأحيانا كانوا يناقشون قضايا سياسية، وبعض الجماعات التي تظهر هنا وهناك، وكيفية التعامل معها مما ينقل إلينا صورة لا بأس بها عن حوادث ذلك الدهر وأحواله.
- في الإنسان والأمم والشعوب وأحوالها وفي الأخلاق والسجايا والطبائع، حيث تطرق لتعريف الإنسان، ومم يتكون، وتعرض للأمم والنقاشات الواردة حول أفضلية بعضها على بعض، وذكر أنه يرى أن لكل أمة فضائل ومساوئ وهي متغيرة بذلك حسب أحوالها وأزمانها وقوتها وضعفها، وذكر مطولا أخبار العرب وصفاتهم ودافع عنهم، ورد على الجيهاني الذي ألف كتابا في مثالب العرب، وتطرق أيضا للأخلاق فعرفها وذكر ما هو خلق وما هو ليس بخلق، وتعرض لشرح وتفصيل أخلاق الناس وكيف أنهم يشابهون الحيوانات فيها إلا أنهم يتميزون عنها بالعقل.
- في عالم الحيوانات، وغاص هنا وأبحر وذكر في ثلاث ليال متتالية كما هائلا من المعلومات عن حيوانات متعددة ومتنوعة المألوف منها والغريب، الموجود والمنقرض، الحقيقي والخرافي، وطفق يذكر صفاتها، وطباعها، وتناسلها، ويقارن بينها وبين الإنسان.

الأسلوب:

اتبع أبو حيان في كتابه أسلوبا سرديا رائعا، يخاطب فيه صديقه أبا الوفاء المهندس، ويذكر له الحوارات التي دارت بينه وبين الوزير بأسلوب تكثر فيه:

- الجمل القصيرة، والسجع المنظم المسبوك، ولننظر إليه حين يقول:" من شف أمله شق عمله، ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه"
- ثم إنه إذا وصف بالغ وأتقن ولم يترك واردة في الموصوف ولا شاردة إلا وقيدها، وذلك تطبيقا لأمر العارض حين قال له: "واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت"، وهذا الوصف البديع يتجلى بوضوح حين قام بوصف الوزير ابن عباد فلنستمع إليه قائلا:" والناس كلهم محجمون عنه؛ لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا أعني يعطي الكثير القليل، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية"
- وكان أسلوبه صريحا فيعترف لأهل الفضل بالفضل، ولأهل الإساءة بالإساءة، فهو كثيرا ما يتبع ذكره لشيخه أبي سليمان، والوزير العارض، وصديقه أبو الوفاء المهندس بألفاظ الدعاء بالرحمة والبقاء والحفظ، ويتبع ذكره للزنادقة والمناطقة والمتفيقهين بما يستحقونه.
- ونلاحظ أنه ينسب كل مقولة وكل معلومة يذكرها لصاحبها، وإن أغفل ذلك أحيانا فإن الوزير يسأله عن مصدر تلك المعلومة حتى يقطع الشك باليقين.
- وعرضه للمعلومة شامل يأتيها من كل جوانبها، ويلاحق جميع نقاطها نقطة نقطة كما في رده على المدعي بأن علم الحساب هو أفضل العلوم وأن علوم البلاغة ما هي إلا فضلة لا داعي لها، فرد عليه أبو حيان ردا شاملا تعرض لكل كلمة ذكرها ذلك المدعي ونقضها من غزلها، وفضحها على الملأ مبينا عوارها.
- ودائما ما يورد الحجج العقلية في معرض رده على بعض الخصوم، أو محاولة إقناعه لمحدثيه بنقطة ما، كرده على المدعي السابق، والذي قال له: بأنك حتى تقنعني بوجهة نظرك لجأت إلى علم البلاغة فصغت جملك المنمقة، وعرضت ألفاظك عرضا تهدف فيه إلى تبيين وجهة نظرك، وهذا هو جوهر البلاغة.

الخاتمة:

أتمنى أن تكون الجولة قد أمتعتكم، وشجعتكم على قراءة هذا الكتاب العظيمة خيراته، الوافرة بركاته، التي سيطلعك بلا شك على حقبة من حقبات تاريخنا العظيم، وسينقل لك أخبار قوم دفنت أجسادهم تحت الثرى، وما زالت عبق ذكراهم يفوح في الهواء، ويفتح عقلك على قضايا متعددة لها صلة كبيرة بواقعنا المعاش، حول العرب وصفاتهم وما كانوا عليه، وحول اللغة العربية وكيف ينبغي أن ينظر إليها، وحول بعض العلوم المتعلقة بها من نحو وبلاغة، ويوجه نظرك إلى الهدف الحقيقي والغاية السامية من هذه العلوم، وفي النهاية ليس كل ما سبق هو الهدف الحقيقي لهذا الكتاب، وإنما هو مسامرة، مثاقفة، محاورة، عصر للأفكار، تحريك للذهن، تلاقح بين العقول، إمتاع ومؤانسة.

ورقة بحث حول "اللهجة السويقية" 1 (مقدمة لمادة المهارات في الجامعة)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد سيدنا ونبينا ومن والاه، وبعد:
فهذا تقرير مختصر أبغي به الإفادة، يلقي الضوء على إحدى اللهجات المشهورة في عمان، ألا وهي لهجة أهل الباطنة، وبالتحديد لهجة أهل السويق، والباطنة هي إحدى مناطق سلطنة عمان الكبرى، وتتميز بتنوعها الجغرافي والديموغرافي، وهذا التنوع أدى إلى تنوع اللهجات التي يتحدث بها أهل هذه المنطقة، وبما أني من أهل السويق، فإن هذا التقرير سيتطرق فقط إلى المظاهر العامة التي يمكن للمار سريعا أن يلاحظها في لهجتهم، ورغم وجود تشابه كبير بين لهجتنا ولهجات الولايات الأخرى القريبة منا، إلا أنني لم أتطرق إلى غير لهجتنا، لأن هذا مجرد تقرير بسيط، وليس بالبحث المتعمق، وسميت هذه اللهجة بلهجة أهل السويق رغم التشابه المذكور سابقا، لأنها انفردت ببعض الخصائص عن غيرها، فكل ولاية أو منطقة تأثرت لهجتها بالبيئة المحيطة وبعوامل أخرى لا يسع المقام لذكرها.
أعيد وأكرر أن هذا مجرد تقرير، لذلك الأمثلة محدودة، والتحليل مختصر، ولكن القارئ لن يخرج بإذن الله وإلا عنده على الأقل فكرة عامة عن ما يميز هذه اللهجة عن غيرها، وسيتعرف إلى كم لا بأس به من كلماتهم ومصطلحاتهم، في بداية التقرير اخترت ثمان كلمات وقلبتها في الميزان الصرفي، ثم تحدثت عن الاختلافات الواضحة الجلية في هذه اللهجة عن الفصحى، ثم ختمت التقرير ببعض الكلمات الشائعة في اللهجة، ولقد واجهتني بعض الصعوبات في تقييد بعض الكلمات، لأن معظمها بها إمالة أي أن الحركة لا تنطق واضحة بل هي صوت بين صوتين، وكما تعلمون فليس لذلك إشارة محددة في اللغة، وفي الختام أتمنى أن تستفيدوا من هذه التقرير السريع، وأن يكون مدخلا جيدا لمعرفة هذه اللهجة المنتشرة في قسم كبير من بلدنا الحبيب.

تحليل مبسط لبعض الكلمات الثلاثية في اللهجة


سأتناول الآن بعض الكلمات الثلاثية، وذلك حسب ما يسعفني الوقت، وسأقوم بتحليلها وتقليبها في الميزان الصرفي، وذلك حتى يتسنى لك أخي القارئ معرفة الطريقة التي ينطق بها أصحاب هذه اللهجة الكلمات وكيف يحولون الفعل إلى أقسامه الثلاثة أو إلى مصادره، أو إلى أي استعمال آخر، وقمت باختيار ثمان كلمات تظهر معظم الاختلافات التي تظهر في هذه اللهجة عن الفصحى:
1- أخذ: معناه في اللهجة مشابه له في الفصحى، ولكن تسهل همزته فتنطق ألفا ممدودة أو تحذف، فيقال في الماضي: خَذيتْ (المتكلم، المخاطب) خَذيتوا (الجمع المخاطب) خَذيتن (المؤنث المخاطبة) حذفت الهمزة، وأضيفت ياء آخر الفعل، وأميلت حركة الذال قبل الياء إلى صوت بين الفتحة والكسرة، وفي المؤنث المجموع فإن ضمة التاء كما هو الحال في الفصحى أبدلت بحركة قريبة من الكسرة في اللهجة، خَذ (المفرد الغائب) خَذَوْ (الجمع الغائب) فتحت الخاء والذال، وسكنت الواو، خَذَن (المؤنث الغائب)، المضارع: آخذ، ياخذ، تاخذ، تسهل الهمزة في الفعلين الأخيرين، وتستبدل ضمة الخاء بحركة قريبة من الكسرة، ياخْذون، تاخْذُون، ياخْذن، نلاحظ أن عين الفعل (الخاء) سكنت هنا تماما، والذال في الفعل الأخير محركة بحركة هي قريبة من الكسرة. الأمر: خذ، خذَوْا، خذَيْ، الضمة التي في أول الفعل كما هو الحال في الفصحى تمال إلى حركة قريبة من الكسرة في اللهجة، [أخذ الشيء] خَذاه، [أخذت الشيء] ماخْذنّه، حركة الذال بها إمالة.
2- أكل: تصريفه مثل تصريف أخذ تماما، الماضي: كَليت، كليتوا، كليتن، كل، كَلَوا، كلن، المضارع: آكل، ياكل، ياكْلون، ياكلن، الأمر: كل، كلَوا، كلن. المصدر: أكل، لا ينطق الكاف ساكنا كما في الفصحى، بل يمال إلى الكسرة قليلا،
3- بغى: في اللهجة تأتي بمعنى أراد، الماضي: بغيت (المتكلم المخاطب) إمالة حركة الباء إلى الفتحة، وحركة الغين إلى الكسرة، بغَى، بغَوْ، بغَن (الغائب – المفرد الجمع المؤنث) إمالة حركة الباء، المضارع: أَبْغى، يبغى، تبغى، نبغى إمالة حركة حرف المضارعة إلى الكسرة، لا أمر لهذا الفعل، اسم الفاعل: باغي.
4- ثار: تأتي في اللهجة بمعنى قام من مكانه، أو استيقظ من نومه، الماضي: ثارْ، ثارَت، ثارَوْ، ثارَن، المضارع: أثُور، يثُور تمال حركة الياء إلى الكسرة، تْثور (المؤنث الغائبة)، الأمر: ثُور، ثُورَيْ، ثُورُوا، ثُورَن، نلاحظ أن الواو التي هي عين الفعل لم تحذف حسب القواعد العربية، بل بقيت في فعل الأمر، اسم الفاعل: ثاير، تقلب الهمزة ياء.
5- جاء: تنطق في اللهجة يا بقلب الجيم ياء، وحذف الهمزة، الماضي: يِيت (المتكلم والمخاطب) قلب الجيم ياء وحركتها الكسرة، وقلب الهمزة (عين الفعل) ياء أيضا أصلها [جئت]، يا، يَوْ، يَنْ (الغائب، المفرد، الجمع، المؤنث) وأحيانا يقال للمفرد الغائب يي بقلب الألف الممدوة ياء، اسم الفاعل: ياي، ياية.
6- حرق: تنطق القاف مجهورة كما تنطقها بعض القبائل العربية، الماضي: حِرَقْتْ الشي، يكسر أول الفعل، ويسكن آخره، حِرَقه تمال حركة القاف إلى الكسرة قليلا، المضارع: أحَرْقه، يحَرْقه تمال حركة القاف إلى الكسرة، يحرقون الياء والحاء والقاف تمال حركاتهم إلى الكسرة، الأمر: حرِق تحذف همزة الوصل، وتمال حركة الحاء إلى الكسرة، المصدر: حِرِيق، حِرِيقة، اسم الفاعل من احْتِرَق: محْترِق حركة الميم والتاء تمال إلى الكسرة.
7- خاس: الشيء انتهت صلاحيته، وغالبا ما تصدر منه رائحة كريهة، الماضي: خاس، خاسَت، خاسَوْ، خاسَن، المضارع: يخِيس تمال حركة حرف المضارعة إلى الكسرة، الأمر: خِيس، اسم الفاعل: خايس.
8- دار: تحرك حول نفسه أو حول شيء ما، الماضي: درْت، تمال حركة الدال إلى الكسرة، دارْ (الغائب) دارَوْ (الجمع الغائب)، المضارع: أَدور، يدُور تمال حركة حرف المضارعة إلى الياء، ادّور أصلها [تدور] ولكن أدغمت التاء مع الدال، الأمر: دُور، دُورَيْ، دُورُوا، نلاحظ أن الواو(عين الفعل) مثبتة في فعل الأمر. اسم الفاعل: داير، تقلب الهمزة ياء، صيغة المبالغة: دَوّار، دوّارة.

مميزات لهجة أهل السويق عن الفصحى:


أولا: الاختلافات الصوتية:
1- قلب الهمزء ياء أو ألفا أو حذفها، إلا همزة المضارعة، وبعض همزات الوصل:
أَكَلَ – كَلْ بفتح الكاف قائم ـ قايم يأخذ ـ ياخذ (إمالة حركة الخاء إلى الكسرة)
امشِ ـ مْشي تائب ـ تايب سالم وأحمد ـ سالم وَ حْمَد، كتبت أحمد حسب نطقها، فهم يسقطون الهمزة حتى وإن كانت همزة قطع، ويكون الفرق بين أحمد وحمد في الحركات.
2- قلب الجيم ياء:
جمل ـ يمَل (إمالة حركة الياء) جدار ـ يدار (إمالة الياء) جبل ـ يبَل (إمالة الياء)
برج ـ برِي (إمالة حركة الباء) حجر ـ حَيَر (يستخدمون هذه الكلمة للحجر المعروف ومصطلحا يطلق على المناطق الجبلية)
جامد ـ يامد (تفخيم صوت الياء، وإمالة حركة الميم) مستعجب ـ مسْتَعْيِب (إمالة حركة الميم وكسر الياء المنقلب عن حرف الجيم)
3- النطق بالقاف مجهورة في كل أحوالها، ولا بد من السماع للمتحدثين بهذه اللهجة حتى تعرف الكيفية الصحيحة للجهر بالقاف، إذ لا يمكن تمييزها كتابة.
4- قلب الألف في آخر الكلمات إلى ياء (أحيانا):
مسْتَشْفِي (إمالة أول حرف)، متِي [متى] (إمالة أول حرف)، سمِي [سماء] (إمالة أول حرف) ، بنا – بني (سكون الباء)، هنا ـ هنِيه (أضيف صوت قريب من الهاء في آخر الكلمة)
5- ينطقون الضاد ظاء في كل الأحوال.
ثانيا: بعض الظواهر اللغوية:
1- أهم ظاهرة لغوية في لهجة أهل السويق هي إضافة الياء والهاء إلى آخر بعض الكلمات، وذلك موجود في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الحاقة "ما أغنى عني ماليه" إلا أنه في الفصحى فإن ما قبل الياء والهاء يكسر، ولكنه في اللهجة يسكن، وهكذا حال معظم الكلمات تكون مجردة عن الحركات، إذ لا يطبق متحدثو هذه اللهجة الأحكام الإعرابية على الكلمات، بل التسكين هو الحكم الوحيد لديهم، ويضيفون الياء والهاء في مثل هذه الحالات:

أ- إضافتهما إلى الأسماء المنتهية بياء المتكلم:
بيتْيه: [بيتي] تمال حركة الباء إلى الكسرة، وتنطق " يه " الأخيرة بإمالة حركة الياء إلى الكسرة أيضا، فلا هي فتحة ولا هي كسرة. وهكذا في كل من: يدارْيه [جداري]، سيّارَتْيه [سيارتي]، مَزْرَعَتْيه [مزرعتي].
ب ـ إضافتهما إلى الأفعال المنتهية بياء المتكلم:
ما تْعَرْفنْيه [ألا تعرفني؟] إمالة حركة الفاء، هين شفْتنْيه [أين رأيتني؟] إمالة حركة الشين والتاء.
2- أيضا يلاحظ أنهم يفخمون كل الحروف التي تأتي قبل ألف ممدودة سواء أكانت حرف استفال أو استعلاء.
ثالثا: الاختلافات الصرفية:
1- يلاحظ أن الإمالة في هذه اللهجة تنتشر كثيرا، فهم يتجنبون في معظم الأحيان أن تبدأ الكلمة ـ وخاصة الأفعال ـ بحركة بل هو أقرب إلى صوت مائل بين حركتين، وكذلك يتجنبون الضمة في أواسط الكلمات ويستبدلونها بصوت يميل إلى الكسرة غالبا، وفيما سبق أمثلة كثيرة على ذلك تعطيك فكرة عامة عن الموضوع، والإمالة ذكرت مرة واحدة في القرآن في رواية حفص عن عاصم في سورة هود " بسم الله مرساها ومجرىها" ففي الكلمة الأخيرة تمال حركة الراء والألف التي بعدها إلى صوت بين الكسرة والفتحة.
2- يلاحظ أن كثيرا من الكلمات تبدأ بساكن وقد ذكرنا أمثلة على ذلك فيما سبق.
3- ويلاحظ أن المتحدثين بهذه اللهجة يميلون إلى تحريك كل ما هو ثلاثي ساكن الوسط، ففي خُبْز يقولون: خبز بإمالة حركة الخاء والباء إلى الكسرة فكما قلنا سابقا فهم يتجنبون الضمة (لثقلها ربما)، وفي شَمْس يقولون: شَمس بإمالة حركة الميم إلى الكسرة.
4- ويلاحظ أنهم غالبا ما يستبدلون الفتحة والضمة في أول الكلمات بكسرة (الحركة المفضلة لديهم) أو بصوت يميل إلى الكسرة، ففي الحالة الأولى يقولون "سِمَك [سَمَك]، حِلِيب [حَليب]، وفي الحالة الثانية (الإمالة) يقولون:" بيت فلا يفتحون حركة الباء بل يميلونها إلى الكسرة"
رابعا: الاختلافات النحوية:
أعظم اختلاف عن الفصحى أنهم لا يطبقون الحركات الإعرابية، بل يلتزمون السكون.

مجموعة من الكلمات في اللهجة السويقية:

1- للإشارة:
هنِيه [هُنا] إمالة حركة الهاء إلى الكسرة، هناكه (إمالة حركة الهاء الأولى، وإضافة هاء أخيرة)، هناكّينّه [هنالك] إمالة الهاء وتشديد الكاف والنون، ذيلا [أولاء] إمالة الذال، ذيلاك [أولئك]، هاذيلا [هؤلاء]، هاذيلاك، هايلا [هؤلاء].
2- للاستفهام:
متِي [متى] إمالة حركة الميم، وين [أين]، هيش [ماذا] إمالة حركة الهاء: هيش تْسوّي؟ [ماذا تفعل؟]، ليش [لماذا].
3-الضمائر:
أَني [أنا]، انته [أنت] إمالة الهمزة، هُوّه [هو]، انتوْ [أنتم]، انتَن [أنتن]، هنّه [هن] إمالة الهاء.
4- الجهات:
روح شرْقا (إمالة الشين) [اذهب ناحية الشرق]، مْحَمَّد راحْ مْشَرِّق [سلك ناحية الشرق]، مْشي مْغَرِّبْ، ياي صوبْني من غَرْبا (إمالة حركة الصاد إلى الضمة) [قادم نحونا من الغرب]، ساند (إمالة حركة النون إلى الكسرة) عَلْوِي يقصد بهاتين الكلمتين جهة الجبال والتي تصادف أن تكون على جنوب المنطقة التي يتحدث فيها بهذه اللهجة، فمن راح ساند هو من اتجه إلى الجنوب، وعكس ذلك جهة البحر وهو في الشمال ويطلقون على تلك الجهة: وطا أو حادر (إمالة حركة الواو إلى الضمة)، البيت (إمالة الباء) أوْطِيك [أي على شمالك]، والحوش (إمالة الحاء إلى الواو) علْوَيك [أي عن جنوبك).
4- مجموعة من الكلمات المختلفة:
حْظار: يطلق على المزرعة المحاطة بجدار أو شباك.
طْعام: له في اللهجة السويقية معنى خاص، إذا غالبا ما يشار به إلى علف الحيوانات.
عَقْفا: تعني العصا، وعلى الرغم أنه من المفترض أن تنتهي بتاء مربوطة إلا لأنهم ينطقونها مفخمة كتبتها ألفا.
شام، يشُوم (إمالة حركة الياء)، شايم: معناه مسافر خاصة إذا كان السفر إلى مكان بعيد، إما إذا كان إلى مكان قريب فيقال: طالع.
ناش، نَش: مغادر، غادر.
انزين: تدل على الموافقة والتأكيد.
طشّة (إمالة حركة الطاء والشين): القليل من الشيء، وتستخدم لذلك كلمة شوية أيضا (بضم الشين).
عِدَّالك: جنبك.
بنروح رْبَاعة: سنذهب مع بعض.
يتْعَيَّر، عيارة(إمالة العين)، عّيَّار: الماكر الذي يستخدم الحيل والأعذار الواهية للتنصل من مسؤولياته، أو الذي يقوم بحركات سخيفة.
يظول، ظال، ظايل: يتجمع ويتكدس.
بَرّا أو برع: خارج.
لين (إمالة اللام) الْحينه (إمالة الحاء): إلى الآن أو حتى الآن.

وفي الختام

لا يسعني إلا أن أنوه أن هذه اللهجة تأثرت بكثير من مصطلحات الفصحى المعاصرة والإنجليزية والهندية بسبب الاختلاط مع الأجانب، ولم يكن هذا التأثر على مستوى الكلمات فقط، بل على مستوى الأساليب والعبارات وكأن لهجة جديدة بدأت تظهر، خاصة عند الشباب وصغار السن، ثم إن الانفتاح الثقافي والعلمي، والتعلم في المدارس والجامعات دفع بعض المتعلمين إلى ترك النطق والتعبير ببعض الكلمات والتعابير الموجودة في اللهجة لغرابتها، لأن ذلك يجعل كلامهم غير مفهوما عند الآخرين الذين لا يتكلمون بلهجتهم، وقد لاحظت أن المتحدثين بهذه اللهجة هم أسرع الناس إلى تصويب الاختلافات في لهجتهم والرجوع إلى الفصحى، فهم لا يواجهون صعوبة شديدة في قراءة القرآن بالفصحى وكما أنزل، ولا تؤثر لهجتهم عليهم، إلا في مسألة التفخيم المذكورة سابقا، ولكن مع بعض التدريب يمكنهم التغلب عليها، ولكن بعض المتحدثين من اللهجات الأخرى، يواجهون صعوبة شديدة في التخلص من الآثار اللهجية عندما يريدون قراءة القرآن أو التحدث بالفصحى.
شكرا لكم على مروركم على هذه العجالة ونتمنى أن تكونوا قد استفدتم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الأعرج والمُعلم (قصة خيالية)




في إحدى القرى الريفية التي تكثر فيها الحيوانات الأليفة والطليقة كان هناك قط أسود عظيم الجثة، مُهاب المقام، ذو وجه بيضاوي بارز، يطغى عليه شنب كثيف الشعر، ويزرع الندب الأحمر الممتد من فوق عينه اليمنى إلى تحتها بشكل مائل من الخارج إلى الداخل في كل من يراه شعورا ممزوجا بالهيبة والخوف، ورغم أن برجله اليسرى عرج بيّن إلا أنك ترى – والدهشة تتملك قلبك وعقلك – جميع القطط كبيرها وصغيرها، ذكورها وإناثها تفقد صوابها، وترتجف شفاهها، وتصطك أرجلها إن رأته قادما من بعيد، فما إن يظهر على الأفق القط الأعرج – كما يسميه أهل القرية – وينتبه أي قط لوجوده حتى يجمد في مكانه، ويظل عاجزا عن الحراك، وكأنما أشعة سحرية تخرج من هذا الأعرج تحول كل من يراه إلى صخرة صامتة، وحتى أهل القرية تراهم حريصين أن تكون هناك مسافة أمان بينهم وبين الأعرج، ولم يجرؤ أحد منهم فيما مضى على الاقتراب منه، أو الدخول معه في تعامل ولا حتى مجرد تبادل للنظرات.
ولكن لم يعهد أبدا عن الأعرج أنه رضيع الحروب، ومشعل الفتن، بل إنه لم يدخل في عراك جدي في حياته إلا مرة واحدة، تلك التي كلفته عرجا في رجله، وندبا يشوه وجهه، ففي إحدى ليالي الشتاء الباردة المطيرة كان الأعرج قد حشر نفسه في جحر هربا من المطر ورغبة في بعض الحرارة الدافئة لشعره المبتل، ولم تمض عليه دقائق بسيطة حتى أتى أحد الكلاب الشرسة الذي كان يعاني من نفس ما عانى منه الأعرج، فلما رأى أحدا بالداخل، شرع ينبح نباحا عظيما، وغرس أنيابه في قدم الأعرج اليسرى مسببا له عاهته الأبدية، ومحاولا جره إلى خارج ذلك الجحر، ولما أفلت الكلب له، نهض الأعرج على ما تبقى له من أرجل، وكان لا يقل عن الكلب جثة، فأخذ يزمجر ويصدر أصواتا مرعبة، واشتبك مع الكلب في قتال عنيف بالأظافر والأنياب، وفي إحدى تلك المناوشات تسبب الكلب في جرحه على عينه اليمنى، فوقف الأعرج على قدميه الخلفيتين مقاوما كل آلامه وبصرخة عظيمة وجه قدماه الأماميتين كسهم صائب إلى داخل محجري الكلب، هارسا عيناه كما يهرس الخباز عجينة الطحين، فتراجع الكلب إلى الخلف ينبح نباحا متقطعا مليئا بالألم وسقط في حفرة خلفه مليئة بالأشواك، وكانت تلك نهايته، وفي الصباح تجمعت القطط وبقية الكائنات على مشهد لم تر له من قبل مثيلا، الأعرج ملقى على الأرض ويداه مليئتان بالدم، وكلب شوهت عيناه مرمي في حفرة من الأشواك لا يتحرك، وبينما كانت أعينهم موجهة إلى ذلك المشهد العجيب، نهض الأعرج بصعوبة بالغة، وأخذ يسحب نفسه، والجميع يبتعد عن طريقه خائفا مشدوها، وكانت تلك بداية أسطورته.
وفي يوم من أيام الربيع الجميلة أتى قط رمادي معتدل الجثة رشيق القوام خفيف الظل إلى القرية، وسرعان ما جذب انتباه قططها، ونال إعجابها، وأصبح مدار أحاديثها، وخفف عنهم ما كانوا يشعرون به من ضغط الأعرج، وأعطى لحياتهم معنى مختلفا غير التجهم والخوف والتسلط، لم يأبه الأعرج لقدوم هذا المتحذلق المهرج، ولم يعط له أية قيمة، وتابع حياته كما هي في السابق، إلا أنه في أحد الأيام، وبينما كانت صغار القطط تلعب في إحدى ساحات القرية، ظهر ثعبان عظيم من بين أشجار النخيل، وبحركة سريعة التقف قطة صغيرة وأخذ يغرس فيها أنيابه، فلمح القط الرمادي ما يحدث فهب مسرعا للنجدة، وكان خفيفا رشيقا، قفز في الهواء قفزة بهلوانية وحط على الثعبان بأقدامه، وعضه بأنيابه تحت رأسه عضة عظيمة لم يستطع الثعبان الإفلات منها، فلف جسده الطويل على خصر القط وبدأ يعصره عصرا بليغا، والقط يزيد في عضه ولا يفلت له، وأخذا يتقلبان على الأرض السبخة وأثارا غبارا عظيما، منع الآخرين من رؤية ما يحدث، وفي أثناء ذلك تجمعت القطط وبقية الكائنات حول ساحة المعركة، وحتى الأعرج رغم بروده لم يستطع منع نفسه من الحضور والمشاهدة، وبينما كانوا ينصتون ويشاهدون، هدأت الجلبة، وسكن المكان، فاشرأبت أعناقهم، متلهفين لمعرفة النتيجة، فإذا بالقط يظهر من بين الغبار، يترنح ويعوي من شدة الألم، وقد ترك الثعبان على وسطه علامة واضحة كحزام بقيت تشوهه طيلة حياته، إلا أن ذلك أكسبه هو الآخر هيبة واحتراما كبيرين، وبدأ الكل يرغب في مصاحبته

هكذا كان يعيش أجدادنا "الجمال" (نشرت في الوطن)



ماضينا عريق ضم بين جنباته أمجادا عظيمة، حُقَّ لنا - نحن أحفاد هذا الماضي - أن نعانق بها السماء تيها وافتخارا، ولكن الافتخار ليس كل شيء، بل هو لا شيء إذا لم نعرف ولم نرد أن نستخلص من خبرات أجدادنا الدروس والعبر التي تعيننا في حياتنا، وتعلمنا أن نحيا، وبجلوسي المتكرر مع الشيوخ والعجائز الذين قضوا ردحا غير يسير من الزمن يجولون في الأرض ويصولون، وجدت بين حنايا صدورهم من التجارب والخبرات والعواطف والشجون ما يعطي للحياة معنى الحياة.
وهنا سأروي لكم إحدى تلك القصص التي أثارت شجوني علها تثير شجونكم وتعطيكم نظرة أخرى لواقعكم، بل آمل أن تقدم لكم حلولا لكل ما تحتاجون له حلا، في منتصف القرن الماضي، حين كانت عمان منغلقة على نفسها، وقبل نهضتها المباركة حين لم يكن أي من مقومات الحياة الحديثة متوفرا، حين كان الشخص يعتمد فقط على العرق المتصبب من جبينه في يوم حار، وبمقدار ما يشمر عن ساعده ينال رزقه، لم تكن توجد مكاتب ولا مكيفات، في ذلك الزمان، وفي سيوح الباطنة نشأ بطل قصتنا سعيد الذي توفي قبل أن يرى نور النهضة المباركة، حاورتُ زوجته العجوز أسائلها عنه وكيف كانت حاله وصفاته، نهضت من نومتها وجلست القرفصاء، ورمت ببصرها بعيدا كأنها تنظر بعمق وإمعان إلى ماضيها، وإلى تلك الأيام الخوالي، ثم قالت بصوت ثابت ومتئد: "الذي أعرفه أنه كان رحيما،" وبعد نفَس أضافت: "وكان ذا شيمة." الشيمة تعني المروءة، تعني الأخلاق الفاضلة، تعني نجدة الآخرين ومساعدتهم، تعني أنه لا تمضي على سعيد أياما بسيطة إلا وقد سئل عن كل إخوانه وأهله وأرحامه إن كان ينقصهم شيء، أو أنهم يحتاجون لشيء.
نظرتُ إليها وأحسست بأن لديها الكثير مما تخفيه، فقلت: أخبريني أريد أن أعرف المزيد عنه، رجعت إلى نومتها واسترخت على وسادتها، وأخذت تسرد راوية:" ولد سعيد في عائلة من الشُوَّان الذين يرعون الغنم، يشربون حليبها، ويقتاتون على لحومها،ويفترشون شعرها، وكان يطلق على ما يصنع من الشعر كفراش "ساحة"، ولظروف عملهم وحياتهم وفقرهم لا يستقرون ولا يبنون بيوتا ومساكن، فلا مأوى لهم إلا شجر السدر والسمر المنتشر في سيوح عمان، لم ألتق به عندما كان صغيرا، ولا أعرف شيئا عن طفولته، إلا أنه لما شب عوده سافر إلى صور كحال غيره من الشباب الذين لا تهيبهم المسافات الطويلة، ولا تمنعهم طول الشقة وعناء السفر عن السعي بكل جد وعزيمة وإصرار لبناء حياة كريمة مبنية على العزة وتشمير الساعد، مترفعة عن الذلة والكسل والسؤال، استمر في صور فترة من الزمن، لا أذكر المهن التي زاولها هناك إلا أنه كان يملك حمارا يحمل عليه متاع الناس مقابل مبالغ زهيدة توفر له لقمة عيشه، رجع من صور وقد وفر بعض المال، وأول ما أخذ يفكر فيه الاستقرار وبناء أسرة، فأرسل إحدى النساء إلى والدي ليخطبني، وتمت الخطبة والزواج دون اشتراطات كثيرة، وبكل سهولة ويسر، ولماذا التعقيد وفرض المستحيلات قبل الزواج إذا كان الغرض هو تأسيس حياة، ولم شمل زوجين سيصارعان الحياة بطولها وعرضها، بحلوها ومرها، وماذا يريد الأب من ابنته بعد أن بلغت سن الزواج يحبسها في بيته، ويصد عنها الخطاب! أليس ذاك فتنة ومدعاة إلى فساد كبير؟!.
تم الزواج، وكان سعيد قد اشترى مزرعة في منطقة الرديدة في ولاية السويق بقروش قد جمعها من عرق جبينه، ومن يملك النخيل في ذلك الزمن يعد شيخا؛ لانتشار الفقر بين الناس، وقضينا عمرنا في جهاد وصراع مع الحياة، نجاذبها فتعطينا ما يكفينا، والشكر والحمد لبارينا، كنا نمضي الصيف بطوله في المزرعة نهتم بالنخلة أمنا ومصدر قوتِنا وقوَّتنا، منذ بداية الطلع وعملية التنبيت ـ التلقيح ـ إلى الجداد والحصاد، ثم تخزين قسم من المحصول، وبيع قسم آخر، والتصدق والإهداء والعطية بقسم ثالث، نعم، لم تمنعنا ظروف حياتنا الشاقة، وقلة ما نجنيه من التفكير بالآخرين ومساعدتهم ولو بالقليل، ففي النهاية هذا المال هو مال الله، وما نحن إلا مؤدون للأمانة، وفي الشتاء كنا نرجع إلى القرية، ويعود سعيد إلى عمله مع حماره، يحمل عليه جدوع النخل المستخدم للبناء، والدعون، والخروس المصنوعة من الطين مقابل أجرة ينالها، وكان أيضا يزاول أعمالا أخرى، لا يكتفي بعمل واحد، ولا يتعلل بضيق الوقت، كما تفعلون أنتم شباب اليوم، فكان يجمع الحطب، ويرعى الغنم، وكنت أنا أهتم بأمور البيت والطبخ، وفي أحيان كثيرة كنت أخرج أيضا لجمع الحطب اللازم للطبخ، وجز الحشيش والبرسيم الذي نعطيه لغنمنا، ورغم مشقة حياتنا، إلا أننا نعمنا بالسعادة والأمان والكرامة، لم نمد أيدينا لأحد، ولم نشتكي إلا لبارينا، وإني لأعجب من شباب اليوم، كيف لا يمكنهم أن يوفروا قوت يومهم، رغم تعدد الإمكانيات، ونحن في أيامنا، على الحمير، وبأدوات بدائية بسيطة عشنا حياة كريمة عزيزة، كنا في كل شتاء ننتقل إلى قرية ونبني من خوص النخيل دعونا تقينا حر الشمس، وتستر عوراتنا في الليل، وفي الصيف نعود للمزرعة، نجاهد الحياة ونحياها.
ومرة من المرات ذهب مع صديق له يبحثون عن عمل إلى إحدى مناطق الخابورة تسمى القصبية كان يوجد فيها تجمع للصيادين ، ولكن الحظ لم يحالفهم فعادوا، وبعد سنة سافر سعيد إلى قطر يحدوه الطموح ، ويدفعه الأمل ، أن يكسب المال الحلال، الذي سيحسن من حالتنا، ويعيننا في حياتنا، فرغم ما تظنونه أنتم أولاد اليوم من أننا بدائيون ومتخلفون، إلا أننا كنا مستعدين للسفر إلى أبعد الأماكن لنكتشف الجديد، ونرى بأعيننا أمما وحضارات أخرى، كنا مبدعين نرغب بالتغيير، لا يعرف اليأس إلى قلوبنا مدخلا، نطرق كل الأبواب، ونمد أيدينا ليلا ونهارا داعين الكريم الوهاب، وبعد سنة قد عاد، وفي سفره كنت قد رزقت بولده الثاني الذي توفي وهو صغير، فلم تكن لدينا المستشفيات، ولا حتى أبسط الأدوية، عاد إلى عمان وقضى فترة، واشترى بعيرا يمارس عليه مهنته السابقة، ويطلق على من يمارس تلك المهنة بالعامية " يمّال"، أو جمّال.
عشنا مع بعض خمس سنوات طوال، لم يقصر الجمال في توفير ما نحتاجه أنا وابني بحسب طاقته، إلا أن القدر كان مع سعيد على موعد، فأصيب بمرض ليس بالشديد، حيث كان يمارس مهنته وهو بتلك الحالة، إلا أن ذلك المرض لم يمهله طويلا حتى عاجله في إحدى الليالي، وانتقلت روحه إلى باريها".
الجمال شخصية من آلاف الشخصيات المماثلة في تاريخنا الزاخر التي كافحت في حياتها لتبني لها مستقبلا، إنه أحد أجدادنا الذي ساهم بعرقه في بناء بلده، إنها شخصية يحق لنا أن نفتخر بها، وأن نتعلم منها، وأن نصدع للعالم أجمع: هكذا كان يعيش أجدادنا ونحن بخطاهم مقتفون.

الاتجار بالأرواح


صفقة الخسران

يرزح عبد لا إطار لوجهه في قيودِ طاغيةٍ زين له يوم التقاه أن يقضم من الفاكهة المحرمة؛ فوقع العبد في حبائل الطاغية وابتلعها كاملة، فانفضت قشور الإيمان عن قلبه، وتخدرت مسارات عقله، وباع روحه معلبة بسعر زهيد، بل بلا سعر، فانتشى الطاغية بهذه الغنيمة نشوة لا حدود لها، وامتلئ خزان نفسه المطبوعة على اضطهاد الآخرين بوقود الطغيان، فازداد علوا في الأرض واستكبر، وشرع يملي على العبد عند ظهور كل نجم واختفائه حروف الجبروت؛ ليكتبها العبد بطحين أعصابه على صفحة قلبه، فيزداد ذلا لا امتناع له عنه، ويتراجع عن عيش الحياة ويتقهقر، في تلك اللحظة البائسة ألقى العبد في قمامة حياته ما أجمعت البشرية على وضعه في خزانة العز والإجلال، وأضحى جسدا ضاويا خاويا مترديا على عتبات الموت، والموت ينأى عنه ويمقته، وكيف يقبل الموت من رفضته الحياة، ومن نسجت العناكب بين ذراعيه وعلى ظهره بيوتا، ومن سلخت ذاته من نور البقاء، ودفنت في غياهب الظلام المغلف بأرقعة الخزي المشين.

البضاعة المشتراة لا ترد

وليضمن الطاغية عبودية عبده حرم عليه رؤية الماء وكل معكاس، فكان يشرب وهو مغمض العينين، ولا يأكل إلا في أواني الخشب، وحرم عليه النظر إلى الأمام أو أن يكلم من لم يأذن له من الناس، لكي تصدأ في عقله صور النجوم وخيالات الضياء أو البحر، وحرم عليه رؤية السماء وكل ما فوق الرأس، وأجبره على أن يصوب بؤبؤ عينيه إلى حصيات الطريق كي لا يتعثر بها، أو ذاك ما ادعى، بل إنه ولمزيد من الاحتياط أمر الحداد أن يصنع قبعة وحزاما حديديين، فوضعت القبعة على رأس العبد بإحكام، وربط الحزام على خصره ربطا شديدا، ثم أحني رأس العبد ووُجِّه إلى الأرض، وأوصل بين مركز القبعة ووسط الحزام من الأمام بسلسلة مستقيمة مشدودة لا ارتخاء فيها.

المالك أحق بملكه

وظلت مطبعة الطاغية تعيد طباعة حياة العبد كلما محاها الزمن دون إحداث أية تغيير في المسودة الأولى، وسلكت أحداث واقعه الذي سجن فيه زقاقا ضيقا تنتشر في جوانبه مرايا الذل، يمضي العبد فيه دون أن يلتفت ودون أن يرى إلا انعكاسات نفسه المزرية، وكانت تلك الانعكاسات تنحت في نفسه ما رُسِّخ فيها، ظل على هذه الحال دهورا حتى انحنى عوده المنحني، وأضحى أرضا بورا، ومع ذلك لم يتوقف الطاغية عن إذلاله وقهره، وبسط سيطرته وقوته عليه، فالتجبر والتكبر والرهبوت هن وقود حياة الطاغية.

انتهاء الصلاحية، وإعادة الإنتاج

وفي ليلة القضاء المقمرة كان العبد يمشي مكبلا حانيا رأسه في ساحة القصر، والطاغية يرقبه من نافذة غرفته العلوية، وفجأة توقف العبد وطال توقفه، بدا كأنه يحدق في شيء ما، تساءل الطاغية: "ما الذي ينظر إليه هذا الحقير؟ لا يوجد هناك إلا التراب، ألم ير هذا ترابا في حياته قط؟"، ولكن العبد لم يكن ينظر إلى التراب، بل إلى قطع مرآة مكسورة ملقاة على الأرض، وفي الحقيقة لم يكن أيضا ينظر إلى قطع المرآة، بل إلى ما تعكسه تلك القطع، كانت تعكس القمر وهو يسبح في عليائه دون قيود تكبله ودون أن يتلقى الأوامر من أي أحد، كان ينظر إلى النجوم البعيدة عاليا في الفضاء، البعيدة عن أن تدنسها الأيادي الظالمة، أو أن تتحكم فيها العقول المتحجرة، تجمع الحراس حوله، وأخذ يفتح فاه محاولا أن يعبر عن معان قد أزيل الصدأ عنها للتو، ولكنه أدرك أنه عاجز عن التعبير عنها، والطاغية ينظر إليه، ثم نُقِل إليه خبره، وما آل إليه أمره، فتنهد وقال: "لا فائدة ترجى منه الآن"، ثم التفت إلى وزيره وسأله:"هل انتهيتم من مسخ الأحمق الذي أحضرته ذاك النهار؟" فأجاب الوزير: "نعم، يا مولاي"، فقال الطاغية:"اذهب، وجهزه ليباشر مهمته من الصباح الباكر"، ثم أشار الطاغية إلى رماته بإبهامه نحو العبد، فتراشقته الأسهم من كل جانب، واخترقت جسده من أسفله إلى أعلاه، طاردة طيف الروح الذي استرجعه قبل قليل، فسقط على قطع المرآة المكسورة، وصادف أن حطت شفتاه على انعكاس القمر ...
أحمد بن حمد بن هديب السابعي الخميس 25/ربيع الآخر 1429هـ الموافق 1/5/2008م

لحظة سقوط (نشرت في الوطن وألقيت في أمسية الإبداع/ جامعة السلطان قابوس - 2007م)


لم يبلغ نديم الخامسة والعشرين من عمره إلا وقد جازف بحياته مرات عديدة، فمنذ أن كان
طفلا صغيرا لازمه شبح الموت ملازمة الظل، ووقعت له أولى هذه المجازفات وهو لم
يتجاوز الثالثة بعد حيث كان يدور بسرعة وتهور حول إناء مليء بالمياه الساخنة، فتعثر
بأحد الأخشاب أسفل الإناء، وهوى على الأرض، مسببا ميل الإناء نحوه وانسكاب الماء
الساخن عليه، فتعرض جزء كبير من جلده لحروق شديدة، وفي أول أيامه في المدرسة كان
يتسلق سارية العلم استجابة لتحدي أحد زملائه له، مما يعكس لك بصورة جلية صفة التهور
لديه، فانزلقت يده وهوى من ارتفاع مترين، متسببا في كسر قدمه وعدة ضلوع في صدره،
وقد لاحظ كل من يلقاه للمرة الأولى هذه النزعة الغريبة لديه، وأنها ليست مجرد شقاوة
أطفال، بل هي رغبة دفينة تدفعه دائما إلى ركوب المخاطر، وإلقاء النفس في المواقف
الحرجة والشديدة بل والمميتة أحيانا، فقد شوهد مرات عديدة يتسلق أشجار النخيل منتقيا
أطولها، ومن أصبح جدعه في حالة مهترئة، ولم يمر يوم عليه لم يتعرض فيه إلى جروح
سطحية أو عميقة، أو على الأقل بعض الكدمات إلا عندما يكون في المستشفى الذي كان كل
طاقمه من المدير إلى الفراش قد حفظ نديم بن علي بن سالم عن ظهر قلب، جرب والداه
وجميع أقاربه وجيرانه وأصدقاؤه كل الوسائل في معالجة هذا المتهور وإقناعه، غير أن كل
محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، ورغم أن جدته كان تكرر أنه سيكبر ويعقل، إلا أن مرور
الأيام لم تزده إلا إصرارا وعنادا، وأخذ يتفنن في إذاقة نفسه ألوانا من المخاطر دون حساب
وبلا تفكير، تدفعه رغبته المريضة في أن يرى الموت قبل أن يحين أوانه، فسافر إلى مناطق
مختلفة من العالم، يتسلق الجبال العالية عاري اليدين والقدمين، ويصارع الأمواج في البحار
الهائجة، ويتجول وحيدا في البراري المليئة بالوحوش المفترسة، ويتنقل في الصحاري
الحارقة المشمسة.وبعد أن تجرع كافة مخاطر اليابسة والماء، قرر أن يجرب شيئا جديدا،
قرر أن يصعد إلى السماء، ويجرب مذاق الخطر الأكبر، أن تكون بين السماء والأرض
متقلبا في الجو، ومصارعا تياراته الهوائية، حيث تجذبك الأرض نحوها، وتنجذب أنت
إليها، وفي اليوم الموعود قفز نديم من الطائرة قفزة عظيمة، ملتفا على نفسه متقلبا، وهو في
حالة هستيرية من الضحك كمن به مس من الشيطان، وأخذ يسبح في الهواء كما تسبح
الأسماك في الماء، مستمتعا بتلك اللحظة أيما استمتاع، واستمر يضحك ويضحك حتى أدرك
- وقد قارب الوصول إلى الأرض - أن مظلته ترفض أن تنطلق من مخبئها، لوهلة ظن أنه
أخطأ في شيء ما، أو أنها ستنفتح بعد عدة محاولات، إلا أنها استمرت في الرفض، بل اشتد
مقبضها صلابة ورسوخا في مدخله رافضا التزعزع أوالتحرك، ليس من عادة نديم
الاستسلام إلا أنه متسرع شديد الانفعال، فصارعها حتى كسر مقبضها، ولم تبق إلا دقائق
معدودة ويصل إلى الأرض الصلبة، خلع حزامها وحاول أن يخرجها من مكمنها بيديه إلا أن
تلك وسيلة عقيمة لا تجدِ البتة، يعرف ذلك من جرب هذا الأمر، حينها خالط فؤاده وجميع
أحشائه خليط من فزع ومغص لم يمر بمثله طيلة حياته، بدأت دموعه بالتساقط، واختلطت
بعرق جبينه وخديه، وفقد تركيزه، فتسرب اليأس إلى أعماق قلبه، وسيطر التوتر والخوف
على عقله، فتراخت قبضة يده وسقطت المظلة منها، وسقط آخر الآمال معها، وأخذ يهوي
ويهوي ويهوي، ونبضات قلبه تزداد خفقانا كلما ازدادت سرعة سقوطه، والأرض تقترب
منه، وهو يقترب منها، حينها بدأ يدرك أن هذه المرة ليست كالمرات السابقة، وبدأ طعم جديد
للموت - لم يتذوق مثله قبلا- يتسرب إلى روحه، وأخذ يتذكر المقولة التي رددها كل من
كان حوله، وسمعها أكثر من غيرها ألا تخاف الموت!؟، ولكنه في المرات السابقة كان
يسمعها دائما بعد أن ينجو من الموت، وأما الآن فهي ملء سمعه وعقله وفؤاده، تتردد بداخله
ولها صدى عظيم، وأخذ يدرك ما كان يجهل، ويا عظم ما كان يجهل! سيطر الخوف تماما
على عقله، وشل حركته كليا فلا تر إلا جفنا يرمش، وشفة تهتز، وكاد الخوف يهشم روحه
ويحطمها قبل أن تهشم الأرض وجهه وتحطم عظامه إلا أنه تدارك نفسه، وجمع شتاته،
وحاول جاهدا أن يسترد تفكيره وتركيزه، ليذوق حلاوة أن يكون الإنسان حكيما متأنيا متمهلا
ولو للحظات قليلة، وحين لم تبق إلا ثوان معدودة، أحس أنه بدأ يسيطر على عقله تدريجيا،
فاستخدمه لأول وآخر مرة وفتح بابه ولم يسمح الوقت إلا لفكرة واحدة بالدخول، لتسيطر
على روحه، ويتشربها قلبه، فارتسمت تعبيرات مبهمة على وجهه الذي لم يلبث أن اصطدم
بالأرض.

حمى العصفور (نشرت في شرفات، وترجمت ونشرت في Beacon)




في ربيعي الثاني عشر حين كنت في الصف السادس الابتدائي، وفي أحد أيام الأربعاء،


رن جرس الحصة الأخيرة معلنا نهاية يوم مجهد للجسد والروح، عدت إلى البيت أطوي


الأرض طياً، لم أدر أرجليّ كانتا تتحركان أم أن الأرض انقلبت فراشا يسحب من تحتي؟


لم تكن في مخيلتي حينئذ إلا صورة صحن مليء بالأرز واللحم، وفراش بارد ووثير، ولكن


عندما وصلت إلى قريتي ودخلت في سور مسجدنا لأختصر الطريق كعادتي في كل يوم،


تناهت إلى سمعي زقزقات حزينة قادمة من داخل المسجد الذي كان حينها قيد الإنشاء،


عبرت تلك الأصوات أغشية جسدي حتى استقرت في أحشائي فضغطت عليها، وكبحت


جماح رغباتي، وخففت من سرعة جريي.


غيرتُ مسار خطواتي، ودخلت المسجد متلهفا ومقلبا نظري ذات اليمين وذات الشمال، لم


يكن هناك أحد في المسجد سواي، أو ذاك ما ظننته إلى أن انبعثت تلك الزقزقات مرة


أخرى، فتوجهت إلى مصدرها بخطى وئيدة وعينين مفتوحتين وفؤاد مترقب فوجدت


عصفورا جميلا رمادي اللون يتقلب على الأرض وهو ما يزال صغيرا جدا، وكان يئن من


شدة الجوع - لم أتخيل حينها سببا آخر لأنينه وزقزقته المفجوعة فأنا نفسي كنت أعاني


من نفس الأمر- حملته بين يدي وسرت في جسدي قشعريرة ما زلت أتذكرها، فتلك كانت


أول مرة أحمل فيها مخلوقا صغيرا يتنفس ويعاني، احترت في الطريقة التي يمكنني أن


أساعده بها، إذ لم أشأ أن أتركه هناك، فشرعت أنقب عن عشه في محيط المسجد فلم أجد


له أثرا، وكان الجوع ما ينفك يهجم على معدتي ويعصرها، فقررت بعد تفكير أخذه معي


إلى البيت، وضعته في صندوق في المطبخ وقدمت له الماء، وأخذت أبحث عن طعام


مناسب له فلم أجد غير الأرز طعامنا المبارك، أطعمته وألقيت عليه منديلا وتركته ينام


وذهبت أنا بدوري لآخذ قسطا من الراحة.



طيلة يومي الخميس والجمعة ظللت أتردد على العصفور في بيته الصغير المزود بكافة


الاحتياجات التي ألهمني حدسي أن العصافير تحتاجها، وكنت أشعر بمسؤولية عظيمة


وخوف كبير من أن يلحقه أي أذى، ورغم أن الاعتناء بمخلوق أضعف مني أمدني بشعور


مذهل ممزوج بالسعادة والفخر، إلا أن المسؤولية أثقلت كاهلي، وبدأت أشعر أنني غير


قادر على مواصلة هذا الأمر، وفي مساء الجمعة كنت مستلقيا على ظهري في غرفة التلفاز


سارحا في بحر من الأفكار والخيالات كلها تدور حول مستقبل العصفور، موجها نظري


إلى المصباح الدائري الأصفر المعلق في السقف، ومن دون أية مقدمات بدأت أشعر


بتيارات كسل وإجهاد تسري في نواحي جسدي تمتص كل طاقة فيه حتى تركتني جثة


هامدة لا أقوى على الحراك، لم أدر ما نزل بي، كان أمرا غريبا حل فجأة، ثم بدأت ألحظ


خيوطا صفراء ممتدة تخرج من المصباح إلى كل ناحية من نواحي الغرفة حتى ملأتها، ثم


طفق المصباح نفسه يكبر وتمتد جوانبه وتتوسع في كل إتجاه، شعرت بالخوف والرهبة


فأغلقت عيني، وشعرت بالمصباح يضغط على صدري، وينشر حرارة ألهبت جوفي


وجعلت العرق يتصبب بغزارة، بدأت أفقد حواسي الواحدة تلو الأخرى، فقدت لمسي ولم


أعد أشعر بأي شيء لدرجة أن والدي الذي فقد بصره صبيا ولم يلحظ سوء حالتي كان


يلكزني بعصاه لأنهض وأستعد للصلاة، ولكني لم أشعر بشيء، وقد كنت قبل أفر هاربا


فور سماعي لوقع عصاه تخبط الأرضية والجدران، وفقدت سمعي فلم أعد أسمع إلا


همهات غريبة لم أفقه معناها، وأزيزا مستمرا في خلفيتها كان يجعل أسناني تصطك بين


الفترة والأخرى فتنتشر رجفة شاملة في جسدي كله ، ثم فقدت بصري ولم أعد أرى شيئا


إلا جواني أرز – وهو أمر غريب لم أجد له تفسيرا – كانت تلك الجواني مصفوفة فوق


رأسي صفوفا عديدة ممتدة عالياً إلى السماء، ووجدت نفسي منهمكا في عدها، أعدها


بصوت مسموع وأشير بإصبعي كلما عددت واحدة، وكلما أخطأت في العد أعدته مرة


أخرى، كان مشهدي غريبا على عائلتي، وقد ظنوا أني فقدت عقلي، أما أنا فقد كنت متأكدا


حينها أني حقيقة فقدت عقلي، وأخذت وساوس وهواجس غريبة تغزو خاطري مسببة لي


صداعا شديدا، هذا بسبب العصفور فقد نقل إليك عدوى مرض خطير، لا، هذا بسبب


المشروبات الغازية التي سكبتها في معدتك قبل قليل، لا، هذا لأنك صليت اليوم الجمعة


خارج المسجد تحت وهج الشمس، واستمر سيل الهواجس هذا يهطل على فؤادي حينا،


وأخذت صور مختلفة تمر أمامي بسرعة، وشعرت بعجز وتعب شديدين لم أمر بمثلهما في


حياتي أبدا.لم ينقذني من حالي الميؤسة تلك إلا يد والدتي الحنونة تمسح على وجهي


وتسكب عليه وعلى جسدي الماء البارد، وحينها فقط استعدت رشدي، وبدأت أسترجع


حواسي بوتيرة بطيئة، رفعَتْ رأسي وناولتني قرصين من الأسبرين، فطحنتهما بأسناني


وألحقتهما بكوب ماء، ثم قدمت لي صحنا من مرقة الفاصوليا وخبزا، وقالت لي كل فالأكل


كفيل أن يخفف عنك، أكلت ما تيسر لي، ثم غططت في نوم عميق وطويل لم أنهض منه


إلا في الصباح الباكر، نهضت وقد زالت عني كل تلك الآلام والأوجاع، شعرت أني قد


ولدت مرة أخرى، شعرت أن روحا جديدة سرت في جسدي ، خرجت من الغرفة


وواجهتني شمس الصباح بأشعتها الدافئة فاستقبلتها بسرور وانشراح، وتعجبت من سرعة


تقلب حال الإنسان، وكأن ما حدث البارحة غمامة صيف ثقيلة ما لبثت أن أتت حتى


رحلت، تذكرت العصفور فتوجهت إلى المطبخ لأطمئن عليه، فوجدته ساكنا في صندوقه لا


يتحرك، ظننته في البداية نائما، ولكنني حين انحنيت نحوه شممت رائحة غريبة، وحين


لمسته وجدته متيبسا في بعض أجزاء جسده فعلمت فورا أنه ميت، اعترتني نوبة حزن


وندم إلا أن صوتا بداخلي أخذ ينادي ألا أحزن؛ فذاك اليوم قد قدره الله أن يكون يوم سعدٍ


لي ويوم انطلاقة، ذهبت الحمى وأزيح عن كاهلي ثقل بطريقة إلهية لم يكن لي فيها دخل،


حملته ولففته في منديل، ودفنته في الساحة خلف منزلنا، وجلست على الأرض بجنبه لبرهة


مفكرا ومغالبا أحاسيس اللوم والحسرة بداخلي، وكان ذاك في يوم السبت أول أيام الأسبوع


الدراسي، فنهضت وتوجهت إلى المدرسة وأنا شخص مختلف عن الشخص الذي خرج


منها آخر مرة، ورغم أني نجوت من حمى العصفور إلا أني لم أنج من عقاب الأستاذ لأني


نسيت أن أؤدي الواجبات التي أمرنا بها، ولم يفهم ما علاقة العصفور والحمى بكل


الموضوع.