الاثنين، 9 مارس 2009

لحظة سقوط (نشرت في الوطن وألقيت في أمسية الإبداع/ جامعة السلطان قابوس - 2007م)


لم يبلغ نديم الخامسة والعشرين من عمره إلا وقد جازف بحياته مرات عديدة، فمنذ أن كان
طفلا صغيرا لازمه شبح الموت ملازمة الظل، ووقعت له أولى هذه المجازفات وهو لم
يتجاوز الثالثة بعد حيث كان يدور بسرعة وتهور حول إناء مليء بالمياه الساخنة، فتعثر
بأحد الأخشاب أسفل الإناء، وهوى على الأرض، مسببا ميل الإناء نحوه وانسكاب الماء
الساخن عليه، فتعرض جزء كبير من جلده لحروق شديدة، وفي أول أيامه في المدرسة كان
يتسلق سارية العلم استجابة لتحدي أحد زملائه له، مما يعكس لك بصورة جلية صفة التهور
لديه، فانزلقت يده وهوى من ارتفاع مترين، متسببا في كسر قدمه وعدة ضلوع في صدره،
وقد لاحظ كل من يلقاه للمرة الأولى هذه النزعة الغريبة لديه، وأنها ليست مجرد شقاوة
أطفال، بل هي رغبة دفينة تدفعه دائما إلى ركوب المخاطر، وإلقاء النفس في المواقف
الحرجة والشديدة بل والمميتة أحيانا، فقد شوهد مرات عديدة يتسلق أشجار النخيل منتقيا
أطولها، ومن أصبح جدعه في حالة مهترئة، ولم يمر يوم عليه لم يتعرض فيه إلى جروح
سطحية أو عميقة، أو على الأقل بعض الكدمات إلا عندما يكون في المستشفى الذي كان كل
طاقمه من المدير إلى الفراش قد حفظ نديم بن علي بن سالم عن ظهر قلب، جرب والداه
وجميع أقاربه وجيرانه وأصدقاؤه كل الوسائل في معالجة هذا المتهور وإقناعه، غير أن كل
محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، ورغم أن جدته كان تكرر أنه سيكبر ويعقل، إلا أن مرور
الأيام لم تزده إلا إصرارا وعنادا، وأخذ يتفنن في إذاقة نفسه ألوانا من المخاطر دون حساب
وبلا تفكير، تدفعه رغبته المريضة في أن يرى الموت قبل أن يحين أوانه، فسافر إلى مناطق
مختلفة من العالم، يتسلق الجبال العالية عاري اليدين والقدمين، ويصارع الأمواج في البحار
الهائجة، ويتجول وحيدا في البراري المليئة بالوحوش المفترسة، ويتنقل في الصحاري
الحارقة المشمسة.وبعد أن تجرع كافة مخاطر اليابسة والماء، قرر أن يجرب شيئا جديدا،
قرر أن يصعد إلى السماء، ويجرب مذاق الخطر الأكبر، أن تكون بين السماء والأرض
متقلبا في الجو، ومصارعا تياراته الهوائية، حيث تجذبك الأرض نحوها، وتنجذب أنت
إليها، وفي اليوم الموعود قفز نديم من الطائرة قفزة عظيمة، ملتفا على نفسه متقلبا، وهو في
حالة هستيرية من الضحك كمن به مس من الشيطان، وأخذ يسبح في الهواء كما تسبح
الأسماك في الماء، مستمتعا بتلك اللحظة أيما استمتاع، واستمر يضحك ويضحك حتى أدرك
- وقد قارب الوصول إلى الأرض - أن مظلته ترفض أن تنطلق من مخبئها، لوهلة ظن أنه
أخطأ في شيء ما، أو أنها ستنفتح بعد عدة محاولات، إلا أنها استمرت في الرفض، بل اشتد
مقبضها صلابة ورسوخا في مدخله رافضا التزعزع أوالتحرك، ليس من عادة نديم
الاستسلام إلا أنه متسرع شديد الانفعال، فصارعها حتى كسر مقبضها، ولم تبق إلا دقائق
معدودة ويصل إلى الأرض الصلبة، خلع حزامها وحاول أن يخرجها من مكمنها بيديه إلا أن
تلك وسيلة عقيمة لا تجدِ البتة، يعرف ذلك من جرب هذا الأمر، حينها خالط فؤاده وجميع
أحشائه خليط من فزع ومغص لم يمر بمثله طيلة حياته، بدأت دموعه بالتساقط، واختلطت
بعرق جبينه وخديه، وفقد تركيزه، فتسرب اليأس إلى أعماق قلبه، وسيطر التوتر والخوف
على عقله، فتراخت قبضة يده وسقطت المظلة منها، وسقط آخر الآمال معها، وأخذ يهوي
ويهوي ويهوي، ونبضات قلبه تزداد خفقانا كلما ازدادت سرعة سقوطه، والأرض تقترب
منه، وهو يقترب منها، حينها بدأ يدرك أن هذه المرة ليست كالمرات السابقة، وبدأ طعم جديد
للموت - لم يتذوق مثله قبلا- يتسرب إلى روحه، وأخذ يتذكر المقولة التي رددها كل من
كان حوله، وسمعها أكثر من غيرها ألا تخاف الموت!؟، ولكنه في المرات السابقة كان
يسمعها دائما بعد أن ينجو من الموت، وأما الآن فهي ملء سمعه وعقله وفؤاده، تتردد بداخله
ولها صدى عظيم، وأخذ يدرك ما كان يجهل، ويا عظم ما كان يجهل! سيطر الخوف تماما
على عقله، وشل حركته كليا فلا تر إلا جفنا يرمش، وشفة تهتز، وكاد الخوف يهشم روحه
ويحطمها قبل أن تهشم الأرض وجهه وتحطم عظامه إلا أنه تدارك نفسه، وجمع شتاته،
وحاول جاهدا أن يسترد تفكيره وتركيزه، ليذوق حلاوة أن يكون الإنسان حكيما متأنيا متمهلا
ولو للحظات قليلة، وحين لم تبق إلا ثوان معدودة، أحس أنه بدأ يسيطر على عقله تدريجيا،
فاستخدمه لأول وآخر مرة وفتح بابه ولم يسمح الوقت إلا لفكرة واحدة بالدخول، لتسيطر
على روحه، ويتشربها قلبه، فارتسمت تعبيرات مبهمة على وجهه الذي لم يلبث أن اصطدم
بالأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق