الثلاثاء، 17 مارس 2009

الرحلة الزمردية إلى الديار الهندية - الجزء الثاني

دخلنا مطار السيب الدولي (سابقا)، وأنا أدفع أمامي عربتين محملتين الواحدة أمام الأخرى، لأن أمي كانت تحمل أختي الصغيرة.

يراودني شعور غريب كلما دخلت المطار، وكأني في بُعد مكاني آخر هو صلة بين عالمين مختلفين، ارتفعت الطائرة و"خضتنا خض العالمين"، منفرة كل ذباب النوم الملتصق على جفني، ورغم أننا استمتعنا بالرحلة السماوية لساعتين فقط، إلا أنه قد مضت أربع ساعات من حياتنا، وبينما كنت أتساءل كيف سرقت الساعتين، نبهتني مضيفة الطائرة إلى ضرورة تعبئة استمارة التأشيرة قبل دخولنا إلى مطار بومباي الدولي.

كانت استمارة طويلة من وجهين، "والغم" بالإنجليزي، ولم تكن إنجليزيتي حينها بتلك القوة، فكتبت ما فهمته وتركت باقي الخانات فارغة، وعندما سلمتها للموظف المسؤول، رفض استلامها وقال بلغته أنه لا بد أن أملأ كل الخانات، وبمساعدة أمي التي تجيد تلك اللغة للترجمة بيني وبينه، قلت له املأها أنت، فرفض بدعوى أنه سيأتي فوج آخر من المسافرين، وأن ذاك سيعطل العمل، فذهبنا إلى شخص آخر ليملأها لنا، فكان أول رد له: "150 روبية"، وبعملية حسابية بسيطة اتضح أن ذاك يساوي ريالا ونصف، فرديت عليه: your big grandmother will give you، وبالعماني يعني"حبوتك العودة بتعطيك"، كنت غاضبا لذلك الاستغلال غير المعقول، ولكن أمي نبهتني أننا سنقضي الليل كله دون أن يساعدنا أحد، فرجعنا إليه، وبمضض ممزوج بحسرة لعدم بذلي المزيد من الجهد في حصة الإنجليزي، دفعنا له ذلك المبلغ.

وكنت حينها بكامل ملابسي العمانية التقليدية، وعندما دخلنا إلى قاعة كبيرة لختم الجوازات، وكنت أجر العربتين، رأيت منظرا عجبا، رأيت أكثر من عشرة أشخاص يركضون بكل ما أوتوا من قوة نحونا، فغمرتني نشوة عجيبة، وقلت في نفسي "كل هذا لأني عربي"، فهمست لي أمي أن هؤلاء جاءوا لحمل الحقائب، والناس هنا لا تعرف "لوجه الله"، ولأني ما زلت منفعلا من الموقف السابق، أوقفت العربتين، وتقدمت للأمام، ورفعت يدي عاليا، وهتفت بالإنجليزية: لا مال ... لا مال،no money ... no money فرأيت منظرا أشد عجبا، وسأحكيه بالبطيء، الكل ضغط على كابح السرعة، وتوقف مستعينا بأحد قدميه لتخفيف السرعة، حتى أن البعض سقط، ثم قفلوا كلهم راجعين، وأحدهم ينفض يديه إلى السماء استنكارا، حسنا "غيبوا، لم أطلب المساعدة في المقام الأول"، ولا أخفيكم أن دفع تلك العربات كان متعبا، وكان المطار كبيرا، ولم نجد المخرج بسرعة، ودرنا في دوامة، ومررنا بجانب أحد موظفي المطار مرتين، وهو يرى حيرتنا، ولكن لم ينبس ببنت شفة، فأرسلت له إشارة بعيني مفادها : لو قضيت الليل بطوله، لن تنل مني نصف روبية"، وطبعا هذا تمسك بمبدأ ما، وليس بخلا، وهذا هو الخطأ الفادح الأول، أنني لم أشتر تذكرة مباشرة إلى حيدرآباد وأعف نفسي من كل هذا العناء.

على العموم، كان هناك، ولله الحمد والمنة، باص توفره شركة المطار مجانا للمسافرين، لينقلك من المطار الدولي إلى المطار المحلي، ولما وصلنا، تناول العمال أغراضي، وحملوها في الباص قبل أن أنطق كلمتي السرية، وقبل أن أصعد الباص، لكزني مسؤولهم بإصبعه، وحدثني بإنجليزية مكسرة: صديق، شوية فلوس، نفر تعبان، فرديت عليه بإنجليزية أكثر تكسرا: رفيق، شوف، أنا نفر دفع فلوس كثير، دفع 20000 روبية أول من عمان منشان تذكرة، انته شغل، راتب موجود، سلام عليكم، وقبل أن يصل الباص وقفت والتصقت بالباب، وقبل أن يفتح كنت ممسكا بأغراضي، ورفضت أن يساعدني أحد، انطلقت الطائرة الأخرى إلى حيدرآباد، وكان الوقت نهارا، والمنظر من الأعلى غاية الإبداع والإتقان، مساحات خضراء كأنها البحر، وجبال متواصلة كأسنان المشط، وآية آيات الله في خلقه. وبعد طول عناء ممتع وجميل، وصلنا إلى حيدرآباد، بفضل الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق