الاثنين، 9 مارس 2009

هكذا كان يعيش أجدادنا "الجمال" (نشرت في الوطن)



ماضينا عريق ضم بين جنباته أمجادا عظيمة، حُقَّ لنا - نحن أحفاد هذا الماضي - أن نعانق بها السماء تيها وافتخارا، ولكن الافتخار ليس كل شيء، بل هو لا شيء إذا لم نعرف ولم نرد أن نستخلص من خبرات أجدادنا الدروس والعبر التي تعيننا في حياتنا، وتعلمنا أن نحيا، وبجلوسي المتكرر مع الشيوخ والعجائز الذين قضوا ردحا غير يسير من الزمن يجولون في الأرض ويصولون، وجدت بين حنايا صدورهم من التجارب والخبرات والعواطف والشجون ما يعطي للحياة معنى الحياة.
وهنا سأروي لكم إحدى تلك القصص التي أثارت شجوني علها تثير شجونكم وتعطيكم نظرة أخرى لواقعكم، بل آمل أن تقدم لكم حلولا لكل ما تحتاجون له حلا، في منتصف القرن الماضي، حين كانت عمان منغلقة على نفسها، وقبل نهضتها المباركة حين لم يكن أي من مقومات الحياة الحديثة متوفرا، حين كان الشخص يعتمد فقط على العرق المتصبب من جبينه في يوم حار، وبمقدار ما يشمر عن ساعده ينال رزقه، لم تكن توجد مكاتب ولا مكيفات، في ذلك الزمان، وفي سيوح الباطنة نشأ بطل قصتنا سعيد الذي توفي قبل أن يرى نور النهضة المباركة، حاورتُ زوجته العجوز أسائلها عنه وكيف كانت حاله وصفاته، نهضت من نومتها وجلست القرفصاء، ورمت ببصرها بعيدا كأنها تنظر بعمق وإمعان إلى ماضيها، وإلى تلك الأيام الخوالي، ثم قالت بصوت ثابت ومتئد: "الذي أعرفه أنه كان رحيما،" وبعد نفَس أضافت: "وكان ذا شيمة." الشيمة تعني المروءة، تعني الأخلاق الفاضلة، تعني نجدة الآخرين ومساعدتهم، تعني أنه لا تمضي على سعيد أياما بسيطة إلا وقد سئل عن كل إخوانه وأهله وأرحامه إن كان ينقصهم شيء، أو أنهم يحتاجون لشيء.
نظرتُ إليها وأحسست بأن لديها الكثير مما تخفيه، فقلت: أخبريني أريد أن أعرف المزيد عنه، رجعت إلى نومتها واسترخت على وسادتها، وأخذت تسرد راوية:" ولد سعيد في عائلة من الشُوَّان الذين يرعون الغنم، يشربون حليبها، ويقتاتون على لحومها،ويفترشون شعرها، وكان يطلق على ما يصنع من الشعر كفراش "ساحة"، ولظروف عملهم وحياتهم وفقرهم لا يستقرون ولا يبنون بيوتا ومساكن، فلا مأوى لهم إلا شجر السدر والسمر المنتشر في سيوح عمان، لم ألتق به عندما كان صغيرا، ولا أعرف شيئا عن طفولته، إلا أنه لما شب عوده سافر إلى صور كحال غيره من الشباب الذين لا تهيبهم المسافات الطويلة، ولا تمنعهم طول الشقة وعناء السفر عن السعي بكل جد وعزيمة وإصرار لبناء حياة كريمة مبنية على العزة وتشمير الساعد، مترفعة عن الذلة والكسل والسؤال، استمر في صور فترة من الزمن، لا أذكر المهن التي زاولها هناك إلا أنه كان يملك حمارا يحمل عليه متاع الناس مقابل مبالغ زهيدة توفر له لقمة عيشه، رجع من صور وقد وفر بعض المال، وأول ما أخذ يفكر فيه الاستقرار وبناء أسرة، فأرسل إحدى النساء إلى والدي ليخطبني، وتمت الخطبة والزواج دون اشتراطات كثيرة، وبكل سهولة ويسر، ولماذا التعقيد وفرض المستحيلات قبل الزواج إذا كان الغرض هو تأسيس حياة، ولم شمل زوجين سيصارعان الحياة بطولها وعرضها، بحلوها ومرها، وماذا يريد الأب من ابنته بعد أن بلغت سن الزواج يحبسها في بيته، ويصد عنها الخطاب! أليس ذاك فتنة ومدعاة إلى فساد كبير؟!.
تم الزواج، وكان سعيد قد اشترى مزرعة في منطقة الرديدة في ولاية السويق بقروش قد جمعها من عرق جبينه، ومن يملك النخيل في ذلك الزمن يعد شيخا؛ لانتشار الفقر بين الناس، وقضينا عمرنا في جهاد وصراع مع الحياة، نجاذبها فتعطينا ما يكفينا، والشكر والحمد لبارينا، كنا نمضي الصيف بطوله في المزرعة نهتم بالنخلة أمنا ومصدر قوتِنا وقوَّتنا، منذ بداية الطلع وعملية التنبيت ـ التلقيح ـ إلى الجداد والحصاد، ثم تخزين قسم من المحصول، وبيع قسم آخر، والتصدق والإهداء والعطية بقسم ثالث، نعم، لم تمنعنا ظروف حياتنا الشاقة، وقلة ما نجنيه من التفكير بالآخرين ومساعدتهم ولو بالقليل، ففي النهاية هذا المال هو مال الله، وما نحن إلا مؤدون للأمانة، وفي الشتاء كنا نرجع إلى القرية، ويعود سعيد إلى عمله مع حماره، يحمل عليه جدوع النخل المستخدم للبناء، والدعون، والخروس المصنوعة من الطين مقابل أجرة ينالها، وكان أيضا يزاول أعمالا أخرى، لا يكتفي بعمل واحد، ولا يتعلل بضيق الوقت، كما تفعلون أنتم شباب اليوم، فكان يجمع الحطب، ويرعى الغنم، وكنت أنا أهتم بأمور البيت والطبخ، وفي أحيان كثيرة كنت أخرج أيضا لجمع الحطب اللازم للطبخ، وجز الحشيش والبرسيم الذي نعطيه لغنمنا، ورغم مشقة حياتنا، إلا أننا نعمنا بالسعادة والأمان والكرامة، لم نمد أيدينا لأحد، ولم نشتكي إلا لبارينا، وإني لأعجب من شباب اليوم، كيف لا يمكنهم أن يوفروا قوت يومهم، رغم تعدد الإمكانيات، ونحن في أيامنا، على الحمير، وبأدوات بدائية بسيطة عشنا حياة كريمة عزيزة، كنا في كل شتاء ننتقل إلى قرية ونبني من خوص النخيل دعونا تقينا حر الشمس، وتستر عوراتنا في الليل، وفي الصيف نعود للمزرعة، نجاهد الحياة ونحياها.
ومرة من المرات ذهب مع صديق له يبحثون عن عمل إلى إحدى مناطق الخابورة تسمى القصبية كان يوجد فيها تجمع للصيادين ، ولكن الحظ لم يحالفهم فعادوا، وبعد سنة سافر سعيد إلى قطر يحدوه الطموح ، ويدفعه الأمل ، أن يكسب المال الحلال، الذي سيحسن من حالتنا، ويعيننا في حياتنا، فرغم ما تظنونه أنتم أولاد اليوم من أننا بدائيون ومتخلفون، إلا أننا كنا مستعدين للسفر إلى أبعد الأماكن لنكتشف الجديد، ونرى بأعيننا أمما وحضارات أخرى، كنا مبدعين نرغب بالتغيير، لا يعرف اليأس إلى قلوبنا مدخلا، نطرق كل الأبواب، ونمد أيدينا ليلا ونهارا داعين الكريم الوهاب، وبعد سنة قد عاد، وفي سفره كنت قد رزقت بولده الثاني الذي توفي وهو صغير، فلم تكن لدينا المستشفيات، ولا حتى أبسط الأدوية، عاد إلى عمان وقضى فترة، واشترى بعيرا يمارس عليه مهنته السابقة، ويطلق على من يمارس تلك المهنة بالعامية " يمّال"، أو جمّال.
عشنا مع بعض خمس سنوات طوال، لم يقصر الجمال في توفير ما نحتاجه أنا وابني بحسب طاقته، إلا أن القدر كان مع سعيد على موعد، فأصيب بمرض ليس بالشديد، حيث كان يمارس مهنته وهو بتلك الحالة، إلا أن ذلك المرض لم يمهله طويلا حتى عاجله في إحدى الليالي، وانتقلت روحه إلى باريها".
الجمال شخصية من آلاف الشخصيات المماثلة في تاريخنا الزاخر التي كافحت في حياتها لتبني لها مستقبلا، إنه أحد أجدادنا الذي ساهم بعرقه في بناء بلده، إنها شخصية يحق لنا أن نفتخر بها، وأن نتعلم منها، وأن نصدع للعالم أجمع: هكذا كان يعيش أجدادنا ونحن بخطاهم مقتفون.

هناك تعليق واحد:

  1. سبحان الله وبحمده28 أكتوبر 2010 في 3:59 ص

    والله صدجت..بس يحز في خاطري لما أرى شاب في ريعان شبابه يعمل فراش ينظف ويمسح الأرضية ويشل "الكشرة"
    حتى لو من أجل اللقمة الحلال"الرزق الحلال"!!..فيه حلوووول أخرى...؟

    ردحذف