الاثنين، 9 مارس 2009

الاتجار بالأرواح


صفقة الخسران

يرزح عبد لا إطار لوجهه في قيودِ طاغيةٍ زين له يوم التقاه أن يقضم من الفاكهة المحرمة؛ فوقع العبد في حبائل الطاغية وابتلعها كاملة، فانفضت قشور الإيمان عن قلبه، وتخدرت مسارات عقله، وباع روحه معلبة بسعر زهيد، بل بلا سعر، فانتشى الطاغية بهذه الغنيمة نشوة لا حدود لها، وامتلئ خزان نفسه المطبوعة على اضطهاد الآخرين بوقود الطغيان، فازداد علوا في الأرض واستكبر، وشرع يملي على العبد عند ظهور كل نجم واختفائه حروف الجبروت؛ ليكتبها العبد بطحين أعصابه على صفحة قلبه، فيزداد ذلا لا امتناع له عنه، ويتراجع عن عيش الحياة ويتقهقر، في تلك اللحظة البائسة ألقى العبد في قمامة حياته ما أجمعت البشرية على وضعه في خزانة العز والإجلال، وأضحى جسدا ضاويا خاويا مترديا على عتبات الموت، والموت ينأى عنه ويمقته، وكيف يقبل الموت من رفضته الحياة، ومن نسجت العناكب بين ذراعيه وعلى ظهره بيوتا، ومن سلخت ذاته من نور البقاء، ودفنت في غياهب الظلام المغلف بأرقعة الخزي المشين.

البضاعة المشتراة لا ترد

وليضمن الطاغية عبودية عبده حرم عليه رؤية الماء وكل معكاس، فكان يشرب وهو مغمض العينين، ولا يأكل إلا في أواني الخشب، وحرم عليه النظر إلى الأمام أو أن يكلم من لم يأذن له من الناس، لكي تصدأ في عقله صور النجوم وخيالات الضياء أو البحر، وحرم عليه رؤية السماء وكل ما فوق الرأس، وأجبره على أن يصوب بؤبؤ عينيه إلى حصيات الطريق كي لا يتعثر بها، أو ذاك ما ادعى، بل إنه ولمزيد من الاحتياط أمر الحداد أن يصنع قبعة وحزاما حديديين، فوضعت القبعة على رأس العبد بإحكام، وربط الحزام على خصره ربطا شديدا، ثم أحني رأس العبد ووُجِّه إلى الأرض، وأوصل بين مركز القبعة ووسط الحزام من الأمام بسلسلة مستقيمة مشدودة لا ارتخاء فيها.

المالك أحق بملكه

وظلت مطبعة الطاغية تعيد طباعة حياة العبد كلما محاها الزمن دون إحداث أية تغيير في المسودة الأولى، وسلكت أحداث واقعه الذي سجن فيه زقاقا ضيقا تنتشر في جوانبه مرايا الذل، يمضي العبد فيه دون أن يلتفت ودون أن يرى إلا انعكاسات نفسه المزرية، وكانت تلك الانعكاسات تنحت في نفسه ما رُسِّخ فيها، ظل على هذه الحال دهورا حتى انحنى عوده المنحني، وأضحى أرضا بورا، ومع ذلك لم يتوقف الطاغية عن إذلاله وقهره، وبسط سيطرته وقوته عليه، فالتجبر والتكبر والرهبوت هن وقود حياة الطاغية.

انتهاء الصلاحية، وإعادة الإنتاج

وفي ليلة القضاء المقمرة كان العبد يمشي مكبلا حانيا رأسه في ساحة القصر، والطاغية يرقبه من نافذة غرفته العلوية، وفجأة توقف العبد وطال توقفه، بدا كأنه يحدق في شيء ما، تساءل الطاغية: "ما الذي ينظر إليه هذا الحقير؟ لا يوجد هناك إلا التراب، ألم ير هذا ترابا في حياته قط؟"، ولكن العبد لم يكن ينظر إلى التراب، بل إلى قطع مرآة مكسورة ملقاة على الأرض، وفي الحقيقة لم يكن أيضا ينظر إلى قطع المرآة، بل إلى ما تعكسه تلك القطع، كانت تعكس القمر وهو يسبح في عليائه دون قيود تكبله ودون أن يتلقى الأوامر من أي أحد، كان ينظر إلى النجوم البعيدة عاليا في الفضاء، البعيدة عن أن تدنسها الأيادي الظالمة، أو أن تتحكم فيها العقول المتحجرة، تجمع الحراس حوله، وأخذ يفتح فاه محاولا أن يعبر عن معان قد أزيل الصدأ عنها للتو، ولكنه أدرك أنه عاجز عن التعبير عنها، والطاغية ينظر إليه، ثم نُقِل إليه خبره، وما آل إليه أمره، فتنهد وقال: "لا فائدة ترجى منه الآن"، ثم التفت إلى وزيره وسأله:"هل انتهيتم من مسخ الأحمق الذي أحضرته ذاك النهار؟" فأجاب الوزير: "نعم، يا مولاي"، فقال الطاغية:"اذهب، وجهزه ليباشر مهمته من الصباح الباكر"، ثم أشار الطاغية إلى رماته بإبهامه نحو العبد، فتراشقته الأسهم من كل جانب، واخترقت جسده من أسفله إلى أعلاه، طاردة طيف الروح الذي استرجعه قبل قليل، فسقط على قطع المرآة المكسورة، وصادف أن حطت شفتاه على انعكاس القمر ...
أحمد بن حمد بن هديب السابعي الخميس 25/ربيع الآخر 1429هـ الموافق 1/5/2008م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق