الاثنين، 9 مارس 2009

حمى العصفور (نشرت في شرفات، وترجمت ونشرت في Beacon)




في ربيعي الثاني عشر حين كنت في الصف السادس الابتدائي، وفي أحد أيام الأربعاء،


رن جرس الحصة الأخيرة معلنا نهاية يوم مجهد للجسد والروح، عدت إلى البيت أطوي


الأرض طياً، لم أدر أرجليّ كانتا تتحركان أم أن الأرض انقلبت فراشا يسحب من تحتي؟


لم تكن في مخيلتي حينئذ إلا صورة صحن مليء بالأرز واللحم، وفراش بارد ووثير، ولكن


عندما وصلت إلى قريتي ودخلت في سور مسجدنا لأختصر الطريق كعادتي في كل يوم،


تناهت إلى سمعي زقزقات حزينة قادمة من داخل المسجد الذي كان حينها قيد الإنشاء،


عبرت تلك الأصوات أغشية جسدي حتى استقرت في أحشائي فضغطت عليها، وكبحت


جماح رغباتي، وخففت من سرعة جريي.


غيرتُ مسار خطواتي، ودخلت المسجد متلهفا ومقلبا نظري ذات اليمين وذات الشمال، لم


يكن هناك أحد في المسجد سواي، أو ذاك ما ظننته إلى أن انبعثت تلك الزقزقات مرة


أخرى، فتوجهت إلى مصدرها بخطى وئيدة وعينين مفتوحتين وفؤاد مترقب فوجدت


عصفورا جميلا رمادي اللون يتقلب على الأرض وهو ما يزال صغيرا جدا، وكان يئن من


شدة الجوع - لم أتخيل حينها سببا آخر لأنينه وزقزقته المفجوعة فأنا نفسي كنت أعاني


من نفس الأمر- حملته بين يدي وسرت في جسدي قشعريرة ما زلت أتذكرها، فتلك كانت


أول مرة أحمل فيها مخلوقا صغيرا يتنفس ويعاني، احترت في الطريقة التي يمكنني أن


أساعده بها، إذ لم أشأ أن أتركه هناك، فشرعت أنقب عن عشه في محيط المسجد فلم أجد


له أثرا، وكان الجوع ما ينفك يهجم على معدتي ويعصرها، فقررت بعد تفكير أخذه معي


إلى البيت، وضعته في صندوق في المطبخ وقدمت له الماء، وأخذت أبحث عن طعام


مناسب له فلم أجد غير الأرز طعامنا المبارك، أطعمته وألقيت عليه منديلا وتركته ينام


وذهبت أنا بدوري لآخذ قسطا من الراحة.



طيلة يومي الخميس والجمعة ظللت أتردد على العصفور في بيته الصغير المزود بكافة


الاحتياجات التي ألهمني حدسي أن العصافير تحتاجها، وكنت أشعر بمسؤولية عظيمة


وخوف كبير من أن يلحقه أي أذى، ورغم أن الاعتناء بمخلوق أضعف مني أمدني بشعور


مذهل ممزوج بالسعادة والفخر، إلا أن المسؤولية أثقلت كاهلي، وبدأت أشعر أنني غير


قادر على مواصلة هذا الأمر، وفي مساء الجمعة كنت مستلقيا على ظهري في غرفة التلفاز


سارحا في بحر من الأفكار والخيالات كلها تدور حول مستقبل العصفور، موجها نظري


إلى المصباح الدائري الأصفر المعلق في السقف، ومن دون أية مقدمات بدأت أشعر


بتيارات كسل وإجهاد تسري في نواحي جسدي تمتص كل طاقة فيه حتى تركتني جثة


هامدة لا أقوى على الحراك، لم أدر ما نزل بي، كان أمرا غريبا حل فجأة، ثم بدأت ألحظ


خيوطا صفراء ممتدة تخرج من المصباح إلى كل ناحية من نواحي الغرفة حتى ملأتها، ثم


طفق المصباح نفسه يكبر وتمتد جوانبه وتتوسع في كل إتجاه، شعرت بالخوف والرهبة


فأغلقت عيني، وشعرت بالمصباح يضغط على صدري، وينشر حرارة ألهبت جوفي


وجعلت العرق يتصبب بغزارة، بدأت أفقد حواسي الواحدة تلو الأخرى، فقدت لمسي ولم


أعد أشعر بأي شيء لدرجة أن والدي الذي فقد بصره صبيا ولم يلحظ سوء حالتي كان


يلكزني بعصاه لأنهض وأستعد للصلاة، ولكني لم أشعر بشيء، وقد كنت قبل أفر هاربا


فور سماعي لوقع عصاه تخبط الأرضية والجدران، وفقدت سمعي فلم أعد أسمع إلا


همهات غريبة لم أفقه معناها، وأزيزا مستمرا في خلفيتها كان يجعل أسناني تصطك بين


الفترة والأخرى فتنتشر رجفة شاملة في جسدي كله ، ثم فقدت بصري ولم أعد أرى شيئا


إلا جواني أرز – وهو أمر غريب لم أجد له تفسيرا – كانت تلك الجواني مصفوفة فوق


رأسي صفوفا عديدة ممتدة عالياً إلى السماء، ووجدت نفسي منهمكا في عدها، أعدها


بصوت مسموع وأشير بإصبعي كلما عددت واحدة، وكلما أخطأت في العد أعدته مرة


أخرى، كان مشهدي غريبا على عائلتي، وقد ظنوا أني فقدت عقلي، أما أنا فقد كنت متأكدا


حينها أني حقيقة فقدت عقلي، وأخذت وساوس وهواجس غريبة تغزو خاطري مسببة لي


صداعا شديدا، هذا بسبب العصفور فقد نقل إليك عدوى مرض خطير، لا، هذا بسبب


المشروبات الغازية التي سكبتها في معدتك قبل قليل، لا، هذا لأنك صليت اليوم الجمعة


خارج المسجد تحت وهج الشمس، واستمر سيل الهواجس هذا يهطل على فؤادي حينا،


وأخذت صور مختلفة تمر أمامي بسرعة، وشعرت بعجز وتعب شديدين لم أمر بمثلهما في


حياتي أبدا.لم ينقذني من حالي الميؤسة تلك إلا يد والدتي الحنونة تمسح على وجهي


وتسكب عليه وعلى جسدي الماء البارد، وحينها فقط استعدت رشدي، وبدأت أسترجع


حواسي بوتيرة بطيئة، رفعَتْ رأسي وناولتني قرصين من الأسبرين، فطحنتهما بأسناني


وألحقتهما بكوب ماء، ثم قدمت لي صحنا من مرقة الفاصوليا وخبزا، وقالت لي كل فالأكل


كفيل أن يخفف عنك، أكلت ما تيسر لي، ثم غططت في نوم عميق وطويل لم أنهض منه


إلا في الصباح الباكر، نهضت وقد زالت عني كل تلك الآلام والأوجاع، شعرت أني قد


ولدت مرة أخرى، شعرت أن روحا جديدة سرت في جسدي ، خرجت من الغرفة


وواجهتني شمس الصباح بأشعتها الدافئة فاستقبلتها بسرور وانشراح، وتعجبت من سرعة


تقلب حال الإنسان، وكأن ما حدث البارحة غمامة صيف ثقيلة ما لبثت أن أتت حتى


رحلت، تذكرت العصفور فتوجهت إلى المطبخ لأطمئن عليه، فوجدته ساكنا في صندوقه لا


يتحرك، ظننته في البداية نائما، ولكنني حين انحنيت نحوه شممت رائحة غريبة، وحين


لمسته وجدته متيبسا في بعض أجزاء جسده فعلمت فورا أنه ميت، اعترتني نوبة حزن


وندم إلا أن صوتا بداخلي أخذ ينادي ألا أحزن؛ فذاك اليوم قد قدره الله أن يكون يوم سعدٍ


لي ويوم انطلاقة، ذهبت الحمى وأزيح عن كاهلي ثقل بطريقة إلهية لم يكن لي فيها دخل،


حملته ولففته في منديل، ودفنته في الساحة خلف منزلنا، وجلست على الأرض بجنبه لبرهة


مفكرا ومغالبا أحاسيس اللوم والحسرة بداخلي، وكان ذاك في يوم السبت أول أيام الأسبوع


الدراسي، فنهضت وتوجهت إلى المدرسة وأنا شخص مختلف عن الشخص الذي خرج


منها آخر مرة، ورغم أني نجوت من حمى العصفور إلا أني لم أنج من عقاب الأستاذ لأني


نسيت أن أؤدي الواجبات التي أمرنا بها، ولم يفهم ما علاقة العصفور والحمى بكل


الموضوع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق