الثلاثاء، 10 مارس 2009

المطاوعة، وما أدراك ما المطاوعة؟

أولا: في هذه المدونة أدون أفكاري القابلة للتطوير كلما اكتسبت خبرة أكثر أو انكشفت لي بعض الحقائق المتخفية.
ثانيا: لا أحبذ أن أتبع الأسلوب الأكاديمي - كما يعلمونا في الجامعة، وكما شدد أحد زملائي علي ليلة البارحة على ضرورة انتهاجه حتى أحسن من صورتي أمام العالم -، وفي الحقيقة، فأنا لا أريد أن أحسنها، أريد الناس أن يروا صورتي الحقيقة، وإن لم تعجبهم (فالأفضل أن يكون لسبب منطقي يقنعني، وإلا فالباب يطوف جمل).
وسأتكلم هنا بالطريقة العادية في عرضها (استخدام العامية أحيانا)، الغنية بالأفكارفي نفس الوقت، وذلك حتى لا يجرني الناس إلى محاكمهم على كل صغيرة وكبيرة إن أنا "تفرعنت" وأعلنت أنني أسطر هنا الحقيقة الأكاديمية الصرفة.

وهذا المنهج أتبعه في كثير من تعاملاتي، والسبب وراءه أنني مطوع.

وقبل أن أتحدث بلسان غيري من المطاوعة، وللعلم فهم مختلفون لأصناف عديدة، وحشرهم كلهم في فئة واحدة، مشابه لما فعله فاتحوا القارة الأمريكية عندما قتلوا التعدد الثري للقبائل الأصلية هناك، والمختلفة في تقاليدها ولغاتها وأطلقوا عليهم كلهم "الهنود الحمر"، ثم أخذوا يطلقون عليهم أحكاما عامة بأنهم كلهم كذا، وكلهم يفعلون كذا، وذلك بعيد كل البعد عن الصواب والمنطق والمنهجية السليمة. (لا أريد أن يأتي أحد ويقول أني قلت أن المطاوعة هنود حمر، أنا عارف أن أحد المتفيهمين سيفعل ذلك، ولكن هذا مجرد تشبيه لنقطة "حشر جماعات مختلفة تحت غطاء أسود مظلم واحد لا يكشف للرائي عن حقيقة تفاصيل ما وراءه). "أيوا ويش كنا نقول؟، نعم" قبل أن أتحدث عن هؤلاء أحب أن أسرد تجربتي، عل البعض يفهمني ثم يضعني في خانة مختلفة خاصة بي، ولا يقارني أبدا "بذاك المطوع اللي شافه ذيك اليوم واللي استوى معاه موقف ما حلو".

أنا والدي - رحمة الله عليه - من المطاوعة القدامى الذين من الله عليهم بحفظ القرآن وتعلم علوم الشريعة، وكان معلما للقرآن في قريتنا، ومن هذه الحقيقة أرغب أن أخبركم شيئين:
- أن الخلفية العائلية أثرت في الشخصية التي أصبحتها وكان لها دور مهم ولكنه ليس الأساسي.
- أنك عندما ترى تشدد "بعض المطاوعة" في الدفاع عن أنفسهم، فهم يدافعون عن "آبائهم"، أو عن مثلهم العليا التي يقتدون بها، ولم يستنكر البعض هذا أشد الاستنكار، ولا يستنكر - هو نفسه - تشدد البعض في الدفاع عن بعض لاعبي الكرة والمغنيات وعمن يقلدهم، ويصم الفريق الأول بالتخلف، والآخر بالانفتاح، خلونا - على الأقل - عادلين، ونعطي المطاوعة حق المساواة مع غيرهم، في تشجيع مثلهم العليا، ولو بالغوا أحيانا في بعض المناسبات، كما أنكم لا ترون بأسا في أن يعبر الشباب عن فرحتهم ببعض المبالغة إن فاز فريقه، ولا أقصد بالمبالغة "خرق القوانين"، بل الزينة التي تملأ الشوارع والسيارات.

- الجانب الآخر الذي أثر في شخصيتي: نوعية الكتب التي كان أبي - رحمه الله - يشتريها، والتي عودنا على قراءتها منذ نعومة أظفارنا، هذا الكم الهائل من المعلومات التي يتلقاها المطوع (الأصلي وليس المتحول حديثا)، تؤثر كثيرا فيمن سيكون، ودعونا الآن من قضية "عدم تفريق الغث والسمين من تراثنا"، والتدين اللاواعي والذي أعتقد بأهميتهما، ولكننا الآن أمام حقيقة أنه قد وجد في الوجود كائن يختلف عن البعض في أفكاره التي زرعت فيه منذ صغره، ولا بد أن يعترف هذا البعض أولا بهذا الوجود، كما يعترف باليهودي والملحد وغيرهما، وهذا الاعتراف ليس مجرد تشدقات باللسان، لا بد أن يكون له أثر، فأنت عندما تحرم هذه الفئة من الدخول في بعض الوظائف إلا إن تخلت عن بعض مبادئها، وعندما تنظر إليهم نظرة دونية ولا تصافحهم إلا بطرف أصابعك، وعندما تضيق عنهم الخناق في البوح بأفكارهم، وعندما لا تريد أن تنظر للأمر من وجهة نظرهم، ولا تريد أن تتعرف ولو قليلا على طريقة تفكيرهم، فما أنت إلا متشدق. وفي نفس الوقت فإن هذا الاعتراف لا يخول المطاوعة أن يتصرفوا في رقاب الناس كما يحلو لهم.

وهذا يقودنا إلى نقطة أن الانتقاد ينبغي أن يكون إلى تصرفاتهم (وهذا ضمنا يعني عدم التعميم في الحديث عنهم)، وليس مقبولا انتقاد من مثل:"والله ما عاجبني شكلك، فور ويل ... الخ)، وهذا أمر يوافق عليه العقلاء ظاهرا، ولكن أفعالهم وكتاباتهم تنبي عن خلاف ذلك.

وعامل آخر: هو دخولي لمعهد العلوم الإسلامية، والذي كان له الدور الأساسي في تكوين شخصيتي، حيث تلقيت العلوم الشرعية من منبعها، ودرست الأمر من جوانب مختلفة، واحتككت مع طوائف مختلفة، ودفعني شعوري بأني مختلف حتى عن بعض أفراد عائلتي، والذي بعضهم عارض "مطوعيتي"، وقال أنها موضة وستزول، وسأسقط كما سقط غيري، دفعني ذلك كله للبحث الحقيقي عمن أريد أن أكون، للبحث عن الإجابات لكل الأسئلة والشبهات، حتى وصلت إلى ما وصلت عليه.

أنا مطوع أي مطيع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطريقة التي فهمها بعض العلماء الذين أثبتت الشهرة القاطعة صدقهم واجتهادهم وتمكنهم من أدوات فهم الدين، وهذا لا يعني التقليد الأعمى أو تقديس الرجال، فلا بد أن يكون الوعي بسبب تحليل هذا وسبب تحريم هذا موجودا حتى لا تكون "مطوعية جوفاء"، وعلى سبيل المثال: عند نزول بعض الفتاوى الجديدة من هؤلاء العلماء فإني لا أسارع بتطبيقها فورا قبل التأني والتمعن، وأنا أثق فيهم في أمور العبادة والمعاملات الشرعية فقط، والتي لا يمكن للمرء أن يكون رأيا أفضل من الذي أنزله الله عزوجل ورسوله، ودعوى أن هذه الأمور هي من تفسير العلماء لنصوص الدين من دون وجود دليل على أن الدين أراد ذلك، هي باطلة فالدليل موجود، والعالم الحق لا بد أن يعرضه وبإمكان أي شخص إن كان يمتلك الأدوات اللازمة أن يعارض ذلك الدليل، وإلا فليصمت، ولا يدع جهله بأمور الدين وطرق تفسيره المقبولة يدفعه للحط من قدر العالم ورفض كل أقواله المدعمة بالحجج والممكن إثباتها، ثم يأتي بدين آخر من عنده ما أنزل الله به من سلطان، ويعيث في الأرض الفساد، وينكر البعض مركزية العلماء وتسلطهم على رقاب الناس "كما يدعي" وهي دعوى باطلة "أي التسلط"، ولكننا نراه هو نفسه يفرض من ثم آراءه التي جلبها من "حيالله مصدر"، ويطالب بحرية الرأي لرأيه، ولكنه لا يريد حرية الرأي للفريق الآخر، وهذا كما ذكرت مرارا هو من البعض، وليس الكل، وأنا هنا أرد على البعض الذي أرى أن له نفوذا وخطرا.

ومع ذلك، فأنا لا أتابع العلماء في كل ما يقولونه، وخاصة في كيف ينبغي أن أصرف دنياي وعلاقاتي مع أهلي وإخواني، فأنا أفهم الضوابط العامة للدين، ثم بعد ذلك فإن التطبيق يختلف حسب الظرف المكاني والزماني والعوامل الأخرى، هذه صورة عامة، ولكن التفاصيل قد تختلف، وهنا تكمن المشكلة، أن الناس يريدون أن يدعوا العلم بالشيء قبل أن يطلعوا على تفاصيله، ومن أهم التفاصيل التي يغفلها منتقدو المطاوعة، أن المطاوعة بشر حالهم حال كل الناس، يحبوا أن يأكلوا الطيب، وأن يصعدوا الجبال، وأن يتزلجوا على الجليد، وأن يعيشوا حياتهم، لذا فهم طبعا سيخطئون وتبدر منهم الهنات

وفي نفس الوقت على المطوع أن يتحمل مسؤولية قراره بأن يصبح مطوعا، وأن يكون قدر المسؤولية، ولكن قلي من الكامل؟ لذا أنا أتبع المنهجية التي ذكرتها في أول المقال: دائما أحب أن أؤكد للناس بشريتي بتعمدي ارتكاب بعض الهنات البسيطة أمامهم حتى يتعودوا علي، ويعرفوا شخصيتي، ولا يجرونني كل يوم إلى محاكمة !

وإلى لقاء آخر

أحمد السابعي

مسقط (سكن جامع الحوسني في خريس الحبوس/السيب)

هناك 6 تعليقات:

  1. جميل .. جميل .. ممتاز للغاية ..
    هؤلاء المطاوعة الذين نبحث عنهم ونودُّ أن يكون لهم القول ولهم الفعل ..

    ردحذف
  2. رائع يا أحمد. سردك عن نفسك جعلني أعرفُك أكثر مما أعرفك، وأحترمك أيضاً أكثر مما أحترمُك،

    أحييك وعقلَك،

    زميلتُك: عقيلة.

    ردحذف
  3. شكرا لكما على مروركما، ونتمنى أن نكون عند حسن الظن

    ردحذف
  4. سبحان الله وبحمده27 أكتوبر 2010 في 12:09 م

    سبحان الله..ليش المطوعة صار غير عن الناس..ليش ما نرجع ونحط انفسنا كأننا في زمن الحبيب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام..فعلا الحق يقال..وكل الصدق معاك

    دهشني كلامك,,

    ردحذف
  5. طرح جيد لمثل هذه المواضيع الحساسة..رائع ي أخ أحمد

    ردحذف
  6. أعجبني كلامك .. شكرا لك

    تحياتي لك

    علي البيماني (لست رئيس الجامعة)

    ردحذف