الثلاثاء، 8 مايو 2012

عشرون محطة

كانت فكرة الزواج تراودني منذ أمد بعيد، تطرق باب عقلي وقلبي طرقا عظيما يهز جنبات أضلاعي وجوفي، وكانت تهب على روحي بين فترة وأخرى عواصف حنين إلى أنثى تكمل شعورا كبيرا بالنقص يأتيني مرارا وتكرارا فيرضخني للهيب حرارته دون أدنى مراعاة لعنائي وخوفي، وكنت أحلم أن هذه الأنثى ستغير ما كرهت في نفسي من أشياء، وستعيد إلي ما أفقدني إياه الزمن ونوائبه، وكنت أنتظرها وأترقبها بشوق ولهفة شديدين يخفق لهما قلبي خفقانا عجيبا رغم أني لم أكن أعرف أي أنثى سترسو سفينة مشاعري المرهقة في مينائها، ولم أعرف ما الذي تعنيه حروف كلمة "أنثى" الشديدة الغموض، هي أنثى وهي امرأة وهي كيان آخر لا يشبهني، هي لغز وهي إبداع وهي مسألة عميقة الغور بعيدة الشط تحيرني، ومنذ البداية لم يكن تفكيري عن الزواج سطحيا أو بسيطا، كان مجرد النطق بلفظته كفيل بأن يلق الرهبة في فؤادي، إلا أن كل ذلك لم يثن من عزمي أو حتى يبطئ من سعيي إلى حلمي، كنت أكرر على نفسي وعلى أصحابي كثيرا أنني قريبا سأتزوج، أقول لهم: انتظروا قليلا، انظروا كيف تقترب مني روحها الشفافة، أكاد أتخيلها أمامي واقفةً تنظر إلي بعين المتلهف المعاتب، يا إلهي ! قريبةً للغاية لو مددت يدي أجزم أني أكاد ألمس بأطراف أصابعي أهداب جفنيها، ورغم أن سنة كاملة مرت، تلتها سنة أخرى لاحقة، وأخرى تابعة، وأخرى تالية، حتى انقضت سبع سنين عجاف، إلا أنني كنت دائما على يقين أنها لم تبتعد عني ولو لغمضة عين، بل كأن وقت لقائي بها لم يكن مقدرا إلا بعد تلك السنين، لم أكن أعرفها ولم أكن أعرف اسمها وحقيقة مشاعرها، ولم أكن متأكدا من أي شيء سوى أنها هي توأم الروح المنتظر، وأن كل الأحداث التي مررت بها رغم كثرتها وقسوتها ما هي إلا مقدمات إلهية تقودني بتأنٍ إليها، توقفت عند عشرين محطة أتأمل الوجوه المارة أمامي بصبر، علها تفضي بمكنوناتها، وأستمع إلى جميع الألسن الناطقة بتلهف علها تعطني ولو إشارة بسيطة إن كنت قد وصلت أو أن أمامي طريقا طويلة، عشرون محطة وأنا أتنقل بين جنباتها دون كلل أو ملل، وكنت كلما أتخطى محطة يتوقع مني من حولي أن أيأس أو تقل همتي أو على الأقل أؤجل الموضوع إلى أجل غير مسمى، إلا أنهم لم يدركوا أن بعد كل محطة قلبي ينتظم إيقاعه وتزداد سرعة نبضه، وأن روحي تغدو متلهفة تسحبني للأمام، ويقيني يزداد بأني اقتربت خطوة ولا يمكنني أن أضيع ثانية واحدة في الانتظار، ثم وصلت، وعلمت أني وصلت بأنني كنت قبلها أستسقي الله أن ينزل علي قطرة يقين، وتظل سماء روحي خاوية وأرضها جافة، وأما معها فقد انفجرت الأرض وبكت السماء والتقت ينابيع اليقين المتفجرة وأمطارها المنهمرة على أمر قد خطه القدر منذ الأزل، وأضحى لهيب جوفي بردا وسلاما بعد طول ترقب وانتظار، وأضحى شرخ روحي الممتد بين جنباتها ملتئما بعد أن امتزج بروحها الطاهرة، ولم يعد اللغز لغزا، بل أضحى نورا يهديني الطريق، وبلسما يشفي الجراح، وروحا تكمل نصف روحي لتأخذنا إلى سماء لم أكن قبل أراها.