الأربعاء، 8 يوليو 2009

جريمة في قاعة الانتظار

أحمد السابعي

أوقف سالم سيارته في مواقف المؤسسة ودخل من الباب الزجاجي الدوار، وكان يزعج باله وقت الدخول مشهد سيارة الإسعاف التي لمحها قبل لحظات مغادرة بوابة المؤسسة، لكنه صرف ذلك من تفكيره فورا وتوجه نحو قاعة الانتظار وأخذ كرسيا بهدوء منتظرا دوره بكل أدب، لم يكن هناك أحد ينتظر، لا أحد، هكذا خيل له، لكنه بعد مرور ساعة من الزمن انتبه إلى وجود شخص آخر غيره قابعا في إحدى زاويا القاعة، كان ذاك الشخص غاضبا قد احمر وجهه من شدة الغضب، عاصرا ركبتيه بأصابع كفيه المنتفضتين، ينفث من مناخيره المتورمة هواء مسموما ويُخرج من بين أسنانه المصطكة فحيحا مزعجا، استغرب سالم كيف أنه لم ينتبه إلى وجود مثل هذه الآفة خلفه، ثم ما لبث ذاك الشخص أن بدأ يتأوه ويتأفف ويزمجر، ثم شرع يتمتم بكلمات غير مفهومة وهو يهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، ثم نهض من مقعده بقوة وكأن ظهره قد كان ملصقا بالكرسي بغراء شديد، وأخذ يضرب الأرض برجليه ويترنح كالمخبول في أرجاء قاعة الانتظار، ثم توجه إلى طاولة الاستقبال وخبطها خبطة عنيفة بيديه صارخا ومهددا ولاعنا، ولكن سالم بقي ينظر ولا يحرك ساكنا بل حتى لم يوجه لهذا الشخص نظرة عتاب، وتصرف وكأن الأمر لا يعنيه البتة.

استمر الرجل يكيل الضربات والركلات للطاولة المسكينة، حاول أن يتسلق الطاولة ليصل إلى الجانب الآخر، ولكن حال ارتفاع الطاولة وسطحها الزلق وعرج في رجله اليمنى دون تحقيق غايته، لم يكن هناك منفذ آخر إلى ما خلف الطاولة من قاعة الانتظار، أجال الشخص نظره في الجدران الأربعة متفحصا وقرر فجأة أن يخرج من القاعة، غاب لدقائق بسيطة ثم عاد في حالة أسوأ من قبل، يلهث لهاث الكلب المسعور ومقلتاه بارزتان خارج محجريهما، مليئتان بالدمع الأحمر، وبأصابع يديه المعقوفتين أخذ ينهش الطاولة بهستيرية مسببا صوتا حادا لعينا يغرز في أعماق النفس شعورا يشبه طعن رؤوس السكاكين، هنا لم يستطع سالم أن يحتمل الوضع وغمرته موجة عارمة من الضيق وعدم الارتياح وأطلق زفرة مفادها "متى يسلموني أوراقي ويفكوني من هذا المخبول"، ثم هدأ الرجل هدوء ما قبل العاصفة ليخر إلى الأرض على يديه وركبتيه، وما لبث حتى أخذ يشهق شهيق المقبل على الموت وانخرط في زوبعة من الصيحات الممزوجة ببكاء شبيه ببكاء الطفل عند فقدانه للعبته المفضلة، وأخذ يصفع وجهه بكفيه ثم ينهشه بأظفاره حتى سال الدم على خديه، هنا فقط وقف سالم منتصبا وبيده اليمنى ملوحا إياها في الهواء صرخ ناحية الرجل: كفى يا هذا، قلت كفى.

وهن صوت صياح الرجل وهدأت حركة صدره الترددية قليلا، ثم أخذ يلتفت ببطء ناحية سالم، وحينما أضحى مقابلا إياه رفع وجهه ونظر إليه بعينين عميقتين لا غور لهما مليئتين بشتى المعاني المتناقضة، يدوران في محجريهما يبعثان الرغبة في التقيؤ واستقرا في مقلتي سالم، وكأن موجة أثيرية عظيمة انطلقت من تلك العينين لتخترقا قلبه وتلقياه على كرسيه مذهولا، غاب وعيه عن العالم الخارجي ولم يدر كم مضى من الوقت، وعندما انتبه لم يجد الرجل في مكانه، ركض ناحية الباب وأخذ يبحث عنه ولكنه لم يجد له أثرا، ثارت الشكوك في نفسه توجه نحو البوابة الرئيسية، وسأل الحارس إذا ما رأى رجلا في حالة يرثى لها يخرج قبل قليل، فرد عليه الحارس بالنفي، حك رأسه مستغربا ثم سأل الحارس إذا ما خرجت سيارة إسعاف قبل قليل، تبسم الحارس وقال لم تدخل سيارة إسعاف إلى هذه المؤسسة منذ أن بدأت بالعمل هنا قبل عشر سنوات، أوجس سالم في نفسه خيفة، حاول أن يقنع نفسه بأن ذاك كان حلما فظيعا إلا أن الريبة والارتباك بدأ يأكلانه من الداخل كما تأكل النار الهشيم، أراد الخروج والفرار بجلده، ولكن الأوراق مهمة، نعم مهمة لا يمكن أن يرجع وقد وصل إلى هذه المرحلة، وعاد ليقبع في إحدى زوايا القاعة مهدودا، وكان يضغط بأصابعه على ركبتيه عندما دخل صالح إلى قاعة الانتظار غير منتبها كالعادة.

قصة خيالية

هناك تعليق واحد: